لا يطرح هذا السؤال الأجانب فقط، وهو ليس خاصاً بالمعارضة. السؤال عما يحدث في الجزائر من تطورات غريبة ومتلاحقة، بل ومتناقضة، أصبح حتى على لسان أقرب المقربين من الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، ومؤيديه. فقد عقدت، في الأسبوع الماضي، 19 شخصية جزائرية ندوة صحافية في العاصمة، طالبت فيها بمعرفة ما إذا كان الرئيس بوتفليقة هو فعلاً من اتخذ القرارات الصادرة عنه، أخيراً، بخصوص إقالات وتغييرات كبيرة على مستوى قيادة الجيش والمخابرات. ومن الشخصيات التي تطالب بمعرفة ما يجري في بلادها، لويزة حنون، مرشحة الرئاسة السابقة، وأقدم معارضة جزائرية في رئاسة الحزب العمالي، ووزيرة الثقافة الجزائرية السابقة، ومناضلة شهيرة ضد الاستعمار الفرنسي، والكاتب رشيد بوجدرة، وقد طالب هؤلاء بلقاء بوتفليقة، ليتأكدوا أن صحته ما زالت تمنحه القدرة الذهنية على إدارة البلاد.
والمعلوم أن الرئيس الجزائري الذي أعيد انتخابه، للمرة الرابعة على التوالي، لم يتحدّث إلى الشعب مباشرةً منذ أكثر من 18 شهراً، أي منذ أن قرأ، بصعوبة ظاهرة، خطاب قَسم تولي الرئاسة. وتعود آخر مرة ظهر فيها يمشي إلى إبريل/ نيسان 2013، ثم لم يُظهره الإعلام الرسمي الجزائري إلا في مرات نادرة، وجالساً وبالكاد يحرك إحدى يديه، وذلك منذ إصابته بجلطة دماغية عام 2013 مازال يعاني على إثرها من شللٍ، جعله يتنقل على كرسي متحرك ويتكلم بصعوبة. ومع مرضه المزمن وشلله الظاهر، أقدم الرئيس بوتفليقة، أخيراً، على اتخاذ قرارات كبيرة، طاولت قياداتٍ في الجيش والمخابرات، وأطاحت رؤوساً كبيرة، كان الجزائريون يعتقدون أنها التي تصنع الرؤساء، وتحرّك الخيوط من خلف الستار. وصدور مثل هذه القرارات التي عجز رؤساء جزائريون سابقون عن اتخاذها، بل وظل بوتفليقة نفسه متردداً في اتخاذها، طوال ولايتيه الأولى والثانية، ولم يكن يعاني مما يعاني منه اليوم، هو الذي يدفع مراقبين كثيرين إلى التساؤل عمّن يحكم الجزائر اليوم، ومن هو رجلها القوي الذي يقف وراء كل هذه القرارات الكبيرة؟
سبق لي في مناسبات أتيحت لي فيها الفرصة للالتقاء بجزائريين، أن توجهت إليهم بالسؤال نفسه، وأغلب من سألتهم شخصيات ذات مصداقية ومعروفة باستقلاليتها عن السلطة، وفي كل مرة كان الجواب نفسه، ومفاده أن لا أحد في الجزائر يعرف ما يجري داخل قصر المرادية (قصر الرئاسة في العاصمة.
أما من يحاولون نسبة كل تلك القرارات إلى سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس المقعد، أو إلى دائرة ضيقة من المحيطين بالرئيس، فيرد عليهم منتقدوهم بأن الجزائر، منذ استقلت، وهي في قبضة الجيش، ولا يمكن للمؤسسة العسكرية القوية أن تسمح لمدنيٍّ، حتى لو كان رئيساً، وبالأحرى أن يكون مدنياً من خارج دائرة السلطة، مثل شقيق الرئيس بوتفليقة، بأن يطلق يده في إقالة كبار ضباط الجيش والمخابرات بدون موافقة من المؤسسة العسكرية ومباركة أجهزتها المخابراتية. ومن يعرف قوة المؤسسة العسكرية الجزائرية التي ظلت تحكم البلاد خمسين عاماً يدرك أن تفكيكها ليس أمراً هيناً، ولم تتأتَّ هذه المهمة لرؤساء جزائريين كثيرين، جاء أغلبهم من المؤسسة نفسها، كما لم تتأتَّ لأقوى جنرالات الجيش وقادة مخابراته، فكيف يمكن تصديق أن وراء ما يحدث اليوم رجلاً مقعداً ومريضاً اسمه عبد العزيز بوتفليقة؟
مؤكد أن التغييرات التي حدثت في قمة أقوى جهاز أمني في الجزائر، وعلى رأس المؤسسة العسكرية الجزائرية العتيدة، دليل على أن ما يحدث في الداخل شيء قوي، وبفعل فاعل أقوى، لكن قليلين يعرفون بواطن الأمور، وأقل منهم من يدركون خطورة ما يجري في العمق، ولا أحد يمكنه التنبؤ بساعة الانفجار الآتية.
كان أول مقال أكتبه في “العربي الجديد” عن الجزائر التي تخلفت عن رياح الربيع العربي عام 2011، وجاء فيه أن التاريخ ربما قد يعيد نفسه في الجزائر، فبلد المليون ونصف مليون شهيد عرف أطول استعمار في المنطقة دام 130 عاماً، وكان آخر دولة في المنطقة تستقل، لكنها عندما فعلت ذلك فعلته بقوة وعنف. لذلك، عندما ستدق ساعة التغيير في الجزائر، يُخشى أن يكون عنيفاً وقوياً مثل ثورة استقلالها التي ملأت سمعتها الآفاق.
ما يحدث اليوم داخل مربع السلطة في العاصمة الجزائر بطريقة متسارعة أكبر مؤشر على أن التغيير المقبل سيكون قوياً وعميقاً، ولأن الجزائر دولة شاسعة، وقوة إقليمية كبيرة، فإن ما سيحدث فيها، لو قُدّر له أن يحدث، ستتجاوز آثاره وانعكاساته حدودها الجغرافية المفتوحة على أكثر من بؤرة توتر مشتعلة في المنطقة، تمتد على طول حدودها مع ليبيا ومالي وموريتانيا، ومروراً بالحدود الساخنة مع تونس، وتلك المغلقة والمتوترة منذ عقدين مع المغرب. ولا أحد من مصلحته أن ينهار النظام في الجزائر، لأنه عندما يسقط سينهار البناء على الجميع، وستصل ارتداداته القوية إلى الجيران. ومثل البركان عندما يستيقظ، يصعب التحكم فيه، ومن لم تُصبه حممه فسينال حظه من دخانه، أما رماده الغني بكل ما يخبئه باطن الأرض، فسيكون من حظ الأجيال المقبلة، إن عرفت كيف تستغل خصوبته.
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم2. كوم”، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية لكم التي أغقلتها الدولة المغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط