هل انتصرت روسيا على الولايات المتحدة؟ هل فقدت واشنطن هيبتها في الشرق الأوسط أمام موسكو؟ تساؤلات كثيرة ترد في مقالات تحليلية وأعمدة في الصحافة العربية، بمناسبة التدخل الروسي في سوريا، لكنها تغفل معطى مهما لفهم التطورات الجارية وهو: ما هي أجندة الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين؟
يُحدث التدخل الروسي في سوريا هزة حقيقية في وسائل الاعلام العربية ووسط الطبقة السياسية، ويتساءل الكثيرون عن الموقف الأمريكي من هذا التطور المفاجئ، وتذهب الكثير من التحاليل الى التبشير بالتفوق الروسي وفقدان الولايات المتحدة هيبتها الاستراتيجية. عمليا، الكثير من هذه التحاليل مقنعة، لكن إذا أخذناها على ضوء عاملين، الأول وهو محدودية الزمن، بمعنى حصر ما يجري من تطورات في اللحظات الحالية، أو المدى القصير جدا دون المدى المتوسط والبعيد. والعامل الثاني إذا استمرت فكرة اختزال مركزية العالم في ما يدور فقط في الشرق الأوسط. لكن معطيات الواقع تؤكد عدم فقدان واشنطن هيبتها، بل فقط هي تتوفر على أجندة مختلفة بعيدة عن الشرق الأوسط، ولديها حسابات عسكرية خاصة بها.
علاقة بالنقطة الأخيرة، لا يمكن للولايات المتحدة الدخول في حرب مع روسيا، فهي ستعني الدمار للاثنين بحكم قوة الخصم وتوفره على أسلحة الدمار الشامل. وتتجنب موسكو وواشنطن المواجهة العسكرية، ولن تحدث سوى في حالة حرب مصيرية، وهذا مستبعد في الوقت الراهن. وعليه، لا يمكن التعجب إذا لم تتدخل واشنطن مباشرة في حالة تعرض دولة من الحلف الأطلسي (باستثناء بريطانيا) الى هجوم روسي، فما بالك في دفاعها عن دولة عربية أمام الروس. وخلال العقود الأخيرة، يعتمد البنتاغون سياسة الردع العسكري ويتجنب المواجهة مع دولة كبرى أو متوسطة عسكريا. فهو يضغط على كوريا الشمالية، ولكن بدون الهجوم عليها، وضغط على إيران ولكن بدون الدخول معها في حرب.
وعلاقة بإيران، باستطاعة البنتاغون إعادة هذا البلد إلى قرون خلت إذا أعلن الحرب عليها، ولكنه سيفقد ما بين 20٪ الى 25٪ من قوته العسكرية في الحرب. ولن تغامر الولايات المتحدة بفقدان هذه النسبة من قوتها العسكرية في ظل تعزيز الصين وروسيا وقوى إقليمية لقدراتها الحربية. وخلال العقود الأخيرة، خاضت واشنطن حروبا لم تكلفها خسائر عسكرية تذكر مثل، ضرب صربيا والعراق وغرينادا وبنما وأفغانستان. لقي بضعة آلاف من الجنود حتفهم ولم تتضرر القدرات العسكرية الأمريكية. الولايات المتحدة لم تفقد هيبتها الاستراتيجية، بل فقط لديها أجندة مختلفة في ظل عالم يسير نحو التعددية القطبية، وهو ما نسميه بـ»المراحل التاريخية للاستراتيجية الأمريكية في رؤية العالم»، حيث تركز في حقبة زمنية على منطقة معينة تكون حيوية لها، من دون أن تفقد باقي المناطق السابقة أهميتها كثيرا. وهذه المراحل هي:
في القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1823، أعلن الرئيس الخامس للولايات المتحدة جيمس مونرو عقيدة مونرو وتعني «أمريكا للأمريكيين». وحملت وجهين مختلفين، مواجهة النفوذ الأوروبي في جنوب القارة الأمريكية ولاحقا انفراد واشنطن بالتدخل في شؤون المنطقة، الأمر الذي ظهر معه تعبير «الحديقة الخلفية للولايات المتحدة».
في النصف الأول من القرن العشرين، ركزت واشنطن على تعزيز العلاقات الأطلسية وتطوير الغرب وإنقاذه من الانهيار جراء الصراعات الداخلية بين أعضائه عموما عبر التدخل في الحرب العالمية الأولى والثانية للقضاء على النازية، حيث أصبحت العلاقات الأطلسية هي عمود المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية الأمريكية.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، استمرت العلاقات الأطلسية وجرى تعزيزها بتأسيس منظمة شمال الحلف الأطلسي، وسيدخل الشرق الأوسط الأجندة الأمريكية، لاسيما بعد اللقاء التاريخي بين الرئيس الأمريكي روزفلت وملك السعودية عبد العزيز سنة 1945. واعتبرت واشنطن الشرق الأوسط منطقة نفوذ بسبب ما يشكل نفطها من أهمية لأمنها القومي، وفي الوقت ذاته مواجهة التغلغل السوفييتي إبان الحرب الباردة.
وتتراجع أهمية الشرق الأوسط في أجندة الولايات المتحد حاليا، إذ لم تعد في حاجة للنفط العربي، بل تصدره الآن. وكان باراك أوباما قد نبه الدول العربية ومنها الخليج في حوار مع «نيويورك تايمز» خلال أبريل الماضي بالتخلي عن الهواجس الأمنية بقوله، إن الأخطار التي تهدد الدول العربية السنية ليست خارجية، ليست إيران بل الخطر الحقيقي هو الاستياء داخل شعوب هذه الدول.
وفي المقابل، تعتبر منطقة المحيط الهادي المنطقة الإستراتيجية لنفوذ واشنطن مستقبلا، القرن الواحد والعشرين. وكتبت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في المجلة الأمريكية «فوراينر بوليسي» عدد أكتوبر 2011 «مستقبل السياسية لا يوجد في العراق أو أفغانستان، بل في آسيا- الباسفيك، من شبه الجزيرة الهندية الى الأمريكيتين، تتضمن الدول المحركة للاقتصاد العالمي». وخلال نوفمبر 2011، احتضنت هاواي قمة «المنتدى الاقتصادي آسيا- الباسفيك» «آبيك»، وقال الرئيس الأمريكي باراك أوباما «آبيك هي محرك العالم خلال القرن الواحد والعشرين». وعمليا، نقل البنتاغون جزءا مهما من سلاحه البحري الى المنطقة لخلق توازن مع التوسع البحري الصيني والتنسيق الصيني- الروسي. فالوجود العسكري الأمريكي يكون حيث تكون وستكون مصالح «العم سام».
ويعتبر المنعطف الحقيقي في هذه الاستراتيجية هو توقيع اتفاقية التبادل الحر المعلن عنها يوم 6 أكتوبر الجاري بين 12 دولة بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وكندا والمكسيك وماليزيا ضمن دول أخرى. تشكل 40٪ من الاقتصاد العالمي وتضم 800 مليون شخص، وهي أكبر اتفاقية تجارية في التاريخ حتى الآن. ومعظم إنتاجات معاهد التفكير الاستراتيجي تذهب نحو هذه المنطقة، وأساسا الدور الذي تلعبه الصين من تحالفات عسكرية مع روسيا وتفاهم مع الهند وتأسيس مجموعة دول البريكس، وتشجيع الدول على استعمال اليوان بدل الدولار، وفرض آليات جديدة في العلاقات الخارجية والعسكرية في المنطقة. ويكفي قراءة الكتاب الذي يقدسه ساسة بكين الجدد «الحلم الصيني» للكاتب العسكري ليو مينغ فيو، الذي يبشر بحلول الصين مكان الولايات المتحدة لمعرفة القلق الأمريكي والرهان على منطقة آبيك.
التدخل الروسي في سوريا مرتبط بأجندة موسكو المستقبلية، والإهمال الذي تبديه واشنطن مرتبط بأجندتها المستقبلية، والإشكال هو استمرار بعض العرب في الاعتقاد بأن الشرق الأوسط هو مركز العالم، وكأننا في مرحلة سومر وميزوبوتاميا، ويرون الأحداث على ضوء سلم زمني قصير ومحدود.
ملاحظة: عزيزي القارئ ساعد ألف بوست على الانتشار في شبكات التواصل الاجتماعي