كلما جدّ جديد على صعيد السياسة ومؤسسات الحكم في الجزائر أو المغرب، خصوصا في الجزائر، قفزت إلى السطح أسئلة مكررة عن تطبيع العلاقات الثنائية وفرص إخراجها من المأزق الذي غرقت فيه منذ أكثر من ربع قرن.
الحديث عن تطبيع جزائري مغربي يشبه الحديث عن تقارب بين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية، أو بين أمريكا وإيران. وهذا يدلّ على تجذّر الخلافات (وليس بالضرورة عمقها) في مؤسسات الحكم بين البلدين، واستعصائها على الحل. المنطقة اليوم بحاجة إلى جرأة سياسية غير مسبوقة، قل إلى معجزة، تعصف بالخلافات الجزائرية المغربية إلى غير رجعة، وتعيد العلاقات إلى ما يجب أن تكون عليه بين جارين ما يربطهما أكثر بكثير مما يفرقهما.
بعد انتخابات 12 كانون الأول (ديسمبر) الماضي عاد الحديث عن العلاقات الجزائرية المغربية وحظوظ إصلاحها بحكم أن الجزائر مقبلة على عهد جديد، على الأقل في الواجهة وفي الرمزية، من دون الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة.
هذه المرة، على خلاف المرات السابقة، لم يذهب المتفائلون بعيدا في تفاؤلهم. وكان المتشائمون على حق في تشاؤمهم، والواقعيون على حق في واقعيتهم. تجارب الماضي علّمت الكثيرين أن لا شيء يؤمل على صعيد العلاقات مع المغرب مع الرئيس الجديد عبد المجيد تبون. وليست المشكلة في تبون، وليست في الجزائر وحدها. إنه طريق ذو اتجاهين.
أحد أوجه المشكلة بسيكولوجي: نظاما الحكم في البلدين، وبفعل الزمن الطويل وتراكم مشاعر الرفض للآخر وتجاهله، أصبحا أسيرين لمعتقداتهما ومشاعرهما تجاه الآخر. كمن يخلق لنفسه وهمًا يعش معه طويلا، فينتهي به المطاف مصدّقا ذلك الوهم. حالة التعايش والتطبيع مع الجفاء والعداء الصامت ترتبت عنها قناعة لدى كل طرف من الطرفين بأنه يستطيع العيش من دون الآخر، وبأنه سيكون في حال أفضل إذا استغنى عن جاره. غير أن هذا الاعتقاد، علاوة عن أنه خاطئ تماما، هو علامة عن تفكير سياسي منحرف وغير واقعي، وعن تجاهل فاضح لما تخسره المنطقة وشعوبها، اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا، جراء هذا الجفاء غير المعقول بين الحكام في البلدين.
وعليه، قبل الحديث عن تطبيع سياسي ودبلوماسي وغيره، يحتاج الحاكمون في كلا البلدين إلى جهود تأهيل نفسي علّها تخلصهم من «متلازمة الجزائر» بالنسبة للمغاربة، و«متلازمة المغرب» بالنسبة للجزائريين.
لم يتوقف الأمر عند السياسيين الذين تفرض عليهم مواقعهم وواجباتهم بعض المواقف والتصريحات غير الإيجابية. لقد امتد إلى «نخب» و«مثقفين» وإعلاميين كان يؤمل منهم النظر بواقعية إلى ما آلت إليه المنطقة جراء الجفاء المتبادل، لكنهم وقعوا في الفخّ وراحوا يشجعون العداء والجفاء.
في المغرب أصبح العداء للجزائر وظيفة تسترزق منها فئة من «المثقفين» والسياسيين. وفي الجزائر تحوّل العداء للمغرب إلى بوليصة لاستمرار العديد من السياسيين و«المثقفين» ومنتسبي المجتمع المدني في الوجود. في البلدين شخصيات ومجموعات بشرية تتلقى رواتب ومزايا لقاء نشر العداء وحتى الكراهية للبلد الآخر. بيدَ أن هذا كله، والحدود المغلقة، فشلَ في جعل الشعبين يكرهان بعضهما، والدليل أن الفرص القليلة التي تتاح للشعب البسيط هناك أو هناك للتعبير عن مشاعره تجاه الجار الذي وراء الحدود، برزت فيها عواطف جيّاشة أصدق من كل الخطب السياسية التي يلقيها السياسيون منذ عقود طويلة.
مشكلة الصحراء والبوليساريو ليست هي لبّ المعضلة. العداء أكبر منها وأقدم. هي فقط الجزء المرئي من جبل الجليد، والذريعة التي يختفي وراءها الصقور في البلدين وبها يتحججون.
ما الحل، إذًا؟
لا أشجع على تعليق آمال على الرئيس تبون، لأنه ابن المنظومة السياسية التي فعلت كل شيء لتزرع في الجزائريين كره المغرب. وحتى وإن كان كلامه خلال الحملة الانتخابية الماضية عن أنه ينتظر اعتذارا من المغرب عن أزمة 1994، موجه للاستهلاك الانتخابي، إلا أنه في حقيقة الأمر يعبّر عن عقلية سياسية شبَّ عليها الجيل الذي ينتمي إليه وورّثها لمن بعده.
ولا أشجع على تعليق آمال على الملك محمد السادس لأنه زاهد في السياسة حتى عندما يتعلق الأمر بالشؤون المحلية، فما بالك بالقضايا الإقليمية والدولية. ناهيك عن أنه يبدو مستسلما لقدر القطيعة مع الجزائر، والإيمان بحلاوة العيش من دونها. ولا أمل في المحيطين به من ساسة ومستشارين لأنهم طيّعون أولًا، وينتمون إلى جيل يمثل وجها لقطعة وجهها الآخر النظام الجزائري، ثانيا.
أدعو إلى التعويل على المجتمع المدني في البلدين، وعلى المثقفين غير الملوثة أذهانهم بالأحقاد السياسية وبالعبثية، في الحفاظ على حصانتهما من دعايات وسائل الإعلام في البلدين ومن تأثير قوافل «المثقفين» الذين جعلوا من العداء للآخر وظيفة. يستطيع المجتمع المدني، شرط أن يكون حرًّا وناضجا ومخلصا، أن يؤدي أدوارا إيجابية، قد تبدو بسيطة وبلا جدوى، لكن لنتذكر أن القطرات المتفرقة تصنع المجاري المائية. تذكروا ملايين الجزائريين الذين زاروا المغرب عندما كان ذلك ممكنا، ويحلمون بزيارته الآن. انظروا إلى آلاف المغاربة الذين يعملون اليوم في المهن اليدوية وقطاع البناء والديكور في المدن وحتى القرى الجزائرية. تذكروا أن النائب البريطاني السابق جورج غالاواي، المنبوذ في بلاده، نجح بالحد الأدنى من الجهد والإقناع في فتح الحدود الجزائرية المغربية مرتين. واحدة في 2002 على رأس قافلة إغاثة إلى العراق، وأخرى في أوائل 2009 عندما قاد قافلة إغاثة أخرى وتوجه بها من بريطانيا إلى قطاع غزة.
إذا نجح رجل غريب عن المنطقة بقليل من الجهد والعناد في كسر الجليد، فالأكيد أن المهمة لن تكون مستحيلة على الفطنين من أبناء البلدين ومعهم المغاربيون المخلصون.