يعيش اليسار في منطقة أمريكا اللاتينية أزمة قد تبدو واقعية للغاية، بحكم وجوده في الحكم منذ عقد ونصف العقد، ونتيجة للتجاوزات التي ارتكبها خلال السنوات الأخيرة ومنها الفساد. ولكن الأزمة الحالية لا تغطي على مساهماته القيمة في عالم متعدد الأقطاب، وفي تطوير الفكر اليساري عالميا ومواقفه المشرفة من بعض القضايا العربية، ومنها القضية الفلسطينية.
وهكذا، فقد حملت معها سنة 2015 هزيمة نسبية للأحزاب اليسارية، مثلما هو الشأن في فنزويلا وأزمة حقيقية في البرازيل ووصول اليمين المحافظ إلى الحكم في الأرجنتين. وعلاقة بفنزويلا، فقد عاشت تحت هيمنة هوغو تشافيز منذ سنة 1999 إلى وفاته منذ ثلاث سنوات. وخلفه في المنصب نيكولاس مادورو، ولكن الحركة البوليفارية تعرضت خلال الشهر الجاري لأول هزيمة في الانتخابات التشريعية، عاد فيها الفوز لليمين وبشكل بين.
وحافظ هوغو تشافيز وبطريقة ديمقراطية على رقم قياسي في الفوز بمختلف
الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية في تاريخ القارة الأمريكية، لكن خلفه
نيكولاس مادورو لم يحافظ على هذا الإرث نتيجة ارتفاع معدل الفساد، حيث ظهر في السنوات الأخيرة جهاز إداري أشبه بما كانت تعرفه الجمهوريات التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، من رفع شعارات ثورية، ولكن في الواقع ممارسة غير نزيهة. وفاقم تراجع أسعار النفط من وضع الرئيس بسبب النقص الذي يعاني منه السكان في التغذية والدواء.
وفي الأرجنتين، فقد اليسار المعتدل المتمثل في حزب العدالة (الحزب البيروني
سابقا) الحكم، بعدما انتهت ولاية الرئيسة كريستينا كيشنر، ولم يفز ممثل الحزب
دانييل سكيولي في الانتخابات، التي جرت الشهر الماضي، بل عاد الانتصار إلى ممثل اليمين المحافظ ماورسيو ماكري بفارق ثلاث نقاط.
وفي البرازيل قائدة أمريكا اللاتينية، يستمر اليسار «حزب العمال» في الحكم،
ولكن نصف مسؤوليه مهددون بالسجن بسبب الفساد. ومن بين المتهمين بالفساد رئيسة البلاد ديلما روسيف التي يخيم عليها شبح الإقالة. ويستمر اليسار بقوة في دول أخرى مثل، الإكوادرو مع رافائيل كوريا، وفي بوليفيا مع إيفو موراليس، وفي الأوروغواي والتشيلي ونيكاراغوا، لكن هذه الدول لا تتمتع بثقل وحجم البرازيل والأرجنتين ونسبيا فنزويلا.
وبهذا، فبدء تراجع اليسار في أمريكا اللاتينية هو أمر واقعي، بحكم ضرورة
التناوب على الحكم بين مختلف الإيديولوجيات، من أجل استقرار المجتمع سياسيا
واجتماعيا. وهذا التناوب مطلوب للغاية من أجل الاستقرار في مجتمعات مثل أمريكا اللاتينية التي كانت طيلة الأربعين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية مسرحا لحروب أهلية وديكتاتوريات عنيفة مثل، النظام العسكري في الأرجنتين وتشيلي، ولم تندمل فيها الجروح بعد.
وتجربة اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية التي بصمت المنطقة خلال 15 سنة
الأخيرة هي رائدة سياسيا. فقد ظهرت أحزاب يسارية جديدة مثلما حدث في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، مختلفة عن الأحزاب اليسارية التقليدية من اشتراكيين وشيوعيين، أحزاب جعلت الأجندة الاجتماعية رئيسية في برامجها السياسية أكثر من الشعارات السياسية، التي ميزت اليسار في الماضي. وتأقلمت الأحزاب اليسارية في البرازيل والأرجنتين نحو المنحنى نفسه: أي أهمية الأجندة الاجتماعية. وكان رئيس البرازيل السابق لولا دي سيلفا قد قال في حملته الانتخابية الأولى، التي أوصلته إلى الرئاسة «هدفي أن أضمن ثلاث وجبات أكل لكل مواطن برازيلي».
وعلاوة على تقديمه نموذجا رائدا في تطوير الفكر اليساري، خاصة في شقه الواقعي وارتباطه بهموم الجماهير وتطلعاته، فقد بصم يسار أمريكا اللاتينـــــية السياسة الدوليـــة أكثر من أي منطقة صاعدة. في هذا الصدد، فقد أسست الحكومات اليسارية تكتلات اقتصادية وسياسية مهمة، خاصــــة بالمنطقـــة ومنها سيلاك الذي يجمع مختلف دول المنطقة، بهدف توحيد صوت أمريكا اللاتينية في المنتديات الدولية.
وفي الوقت ذاته، فقد واجهت الحكومات اليسارية المؤسسات المالية الدولية الكبرى ذات الطابع العمومي مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي أو صناديق
الاستثمار، خاصة المعروفة باسم «الصقور»، التي تستغل حاجة الدول للسيولة
المالية وتقرضها بفوائد مرتفعة للغاية. ورفض الكثير من الحكومات اليسارية
توصيات هذه المؤسسات الى مستوى قرار رئيس الإكوادور طرد ممثل البنك العالمي، متهما إياه بالتأثير على الاقتصاد الوطني. واقتصاديا، تمثل البرازيل دول
المنطقة في بنك الجنوب للتنمية، الذي أعلنته دول البريكس للحد من تأثيرات
المؤسسات المالية التي يسيطر عليها الغرب.
ومن أبرز مساهمات حكومات اليسار في السياسة العالمية هو رهانها على عالم متعدد الأقطاب عبر تكسير الهمينة السياسية للغرب على أمريكا اللاتينية، خاصة
الولايات المتحدة، حيث تسمى هذه المرحلة بـ»فقدان واشنطن لحديقتها الخلفية». وفي المقابل، انفتحت أمريكا اللاتينية على روسيا والصين.
وكان معظم العالم العربي يختزل أمريكا اللاتينية في كرة القدم عبر لاعبين
أمثال، بيليه ومارادونا وروائيين مبدعين أمثال غارسيا ماركيز، فجأة أصبحت حاضرة سياسيا بسبب مواقف مشرفة لبعض زعمائها، خاصة من القضية الفلسطينية، حيث طردت بعض الدول مثل، بوليفيا وفنزويلا سفراء إسرائيل بسبب الاعتداءات على الفلسطينيين، وتحولت إلى ناطق باسم القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة. ومن الصعب تصور حصول فلسطين على صفة دولة في الأمم المتحدة بدون الدور الكبير لدول أمريكا اللاتينية.
وحاولت حكومات اليسار بناء تكتل مع العالم العربي، بعدما احتضنت البرازيل القمة الأولى بين الطرفين سنة 2005، لكن المبادرة فشلت بسبب غياب الوحدة العربية، وارتهانها المستمر لعواصم مثل واشنطن، وكذلك بسبب اندلاع الربيع العربي.
نعم، يرحل اليسار في بعض دول أمريكا اللاتينية، ويعيش أزمات سياسية في أخرى، لكنه يرحل بعدما ترك بصمات على السياسة الدولية منذ بداية القرن الواحد والعشرين حتى اليوم، ومنح الفكر اليساري أبعادا لم يكن ينتظرها بعد سقوط جدار برلين.
ورحيله مؤقت فقط لأن أمريكا اللاتينية أصبحت فضاء لديمقراطية حقيقية تؤمن بالتناوب على السلطة.