كان الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو كتب رواية عنوانها «المنور» هي الثانية له بعد الأولى «دليل الرسم والخط» وقد سلمها إلى ناشره عام 1953. لكن الناشر تلكأ في نشرها فضاعت المخطوطة وكاد سارماغو ان ينساها. لكن ورثة الناشر اتصلوا به عام 1989 ليعلموه انهم وجدوا مخطوطة رواية له عنوانها «المنور». كان إيجاد المخطوطة مفاجأة كبيرة لهذا الكاتب، وسرعان ما استعادها ورفض ان ينشرها على رغم إلحاح الأصدقاء والناشرين.
وكانت وصيته ان تنشر الرواية بعد رحيله. وصدرت الرواية حديثاً في البرتغال والبرازيل، بعد ثلاثة أعوام على رحيل الروائي الكبير. وسرعان ما ترجمت الى الإسبانية لتنتشر في أميركا اللاتينية. وكانت «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» سباقة في ترجمتها الى العربية، وتصدر الرواية خلال أيام.
وتضم الترجمة التي انجزها هيثم لمع مقدمة وضعتها الكاتبة البرتغالية بيلار دل ريو، رئيسة «مؤسسة جوزيه ساراماغو». ونظراً الى اهمية المقدمة التي تتناول حكاية هذه الرواية التي فقدت زهاء ستة وثلاثين عاماً، تنشرها «الحياة» كاملة.
< كان ساراماغو يحلق ذقنه عندما رنّ جرس الهاتف، فرفع السمّاعة إلى الناحية غير المبتلّة بالصابون من وجهه وقال بضع عبارات لا أكثر: «صحيح؟ هذه مفاجأة مذهلة»، «لا، لا داعي لذلك. سأكون عندكم في أقلّ من نصف ساعة». وأقفل. ثمّ أنهى حمّامه بسرعة لم أعهدها منذ عرفته، وقال لي إنّه سيخرج ليستعيد رواية كتبها ما بين أربعينات القرن الماضي وخمسيناته ثمّ ضاعت منه. عندما رجع كان يحمل تحت ذراعه «المنوَر»: رزمة من الأوراق المطبوعة بالآلة الكاتبة حفظها الزمن وعفاها من الإصفرار، وكأنّ الزمن كان أكثر احترامًا للنسخة الأصلية من تلك الجهة التي تسلَّمَتها سنة 1953. «إنّه لشرفٌ لدارنا أن تنشر المخطوطة التي ظهرت لدينا بينما كنّا نوضّب أغراضنا للانتقال إلى مكان آخر»، هذا هو الكلام الذي سمعه جوزيه ساراماغو عام 1989، وكان يومذاك منكبًا على إنهاء روايته «الإنجيل يرويه المسيح». كان جوابه: «أوبريغادو. شكرًا، ليس الآن»، قبل أن يخرج من الدار إلى الشارع حاملاً روايته ومعها جواب انتظره سبعًا وأربعين سنة، منذ كان له من العمر واحد وثلاثون عامًا وأحلام كثيرة متأهّبة. ذلك التصرّف القديم من قبل دار النشر دفع به إلى صمت آلمه، استعصى على النسيان، فطال عقودًا.
«الكتاب الذي فُقد في زمن وعُثر عليه مع الزمن»، هكذا كنّا نشير إلى «المنوَر» في منزلنا. وقد حاول الذين قرأوا الرواية آنذاك إقناع المؤلّف بضرورة نشرها، لكن جوزيه ساراماغو كان يرفض ويصرّ على رفضه، ويقول إنّ الكتاب لن يُنشر طالما هو على قيد الحياة. كان تفسيره الوحيد أنّ ذلك يتعارض مع خطّه في الحياة الذي كتب عنه مرارًا وصرّح به تكرارًا، وهو ألا أحد مجبرٌ على أن يحبّ أحدًا آخر ولكن كلّنا ملزمون باحترام بعضنا. وفقًا لهذا المنطق كان ساراماجو يعتبر أنْ ليس هناك أيّ مؤسّسة ملزمة بنشر المخطوطات التي تتسلّمها، إنّما هناك واجب إرسال الردّ إلى من انتظره يومًا بعد يوم، شهرًا بعد شهر، بفارغ الصبر وربّما ببعض الترقّب القَلِق، لأنّ الكتاب الذي يسلّمه صاحبه، المخطوطة، هو أكثر من مجرّد حروف مكدّسة، فهو يضمّ في طيّاته كائنًا بشريًا، بذكائه وأحاسيسه. هكذا فإنّ الجرح الذي شعر به ساراماجو الشابّ لعدم تسلّمه ولو سطرًا أو سطرين، ولو كلمة مختصرة تقول مثلاً «أوقفنا النشر في الفترة الحالية»، كان معرّضًا لأن يُفتح من جديد كلّما ذكرنا الكتاب، أو هكذا فكّر كلّ من كان يُحيط به، ممّا حدانا إلى عدم الإصرار على نشره. رأينا في هذا الألم العتيق أيضًا سبب عدم اكتراثه لمخطوطته وكيف تركها تقبع على طاولته بين ألف ورقة وورقة. جوزيه ساراماغو لم يقرأ «المنوَر»، ولم يلحظ غياب النسخة الأصلية عندما أخذتُها للتجليد، واتّهمني بالمبالغة عندما قدّمتُها له مغلّفة. غير أنّه لكونه المؤلّف، كان يعرف أنّ الرواية جيدة، وأنّ بعض ما كان يضمّه هذا العمل عاد إلى الظهور في بقية آثاره الأدبية، وأنّه حمل بذار ما انتهى لاحقًا إلى النموّ والتفتّح كلّيًا، ونقصد صوت ساراماجو الروائي الخاصّ به.
«كلّ شيء يمكن سرده بطريقة مختلفة»، قالها ساراماغو ضاربًا في صحارى الحياة ومُبحرًا في مياهها المضطربة. إذا أخذنا بهذه المقولة، اليوم بعد تناول ما كان واقعًا فعلاً وما حسبناه فرضًا، سيتعيّن علينا تفسير الإشارات وفهم عناد الكاتب في ضوء حياة كاملة، مشاركًا بها الآخرين ما لديه، تحدوه رغبة ملحّة في التواصل. «الموت هو الانتقال من حالة وجود إلى غياب عن الوجود»، قال أيضًا جوزيه ساراماغو. صحيح أنّه مات وغاب عن الوجود، ولكن فجأة ومع نشر «المنوَر»، في البرتغال والبرازيل، البلدين اللذين يحتضنان لغته، يتناقل الناس من يد إلى يد كتابًا جديدًا ويعلّقون، بانفعال ودهشة متجدّدين، على قراءته وعلى المفاجأة التي حملها معه. هكذا نكتشف أنّ ساراماغو نشر مجدّدًا رواية تحمل نضارة ملهِمة، تخترق أحاسيسنا وتنتزع منّا التعبير عن بهجتنا ودهشتنا. ونفهم، أخيرًا، أنّ هذا ما أراد المؤلّف تقديمه لنا ليستمرّ مشاركًا ما لديه بعد غيابه، كلّيًا، عن الوجود.
ونسمع هنا وهناك كلامًا لا يكلّ: هذا الكتاب درّة نفيسة، كيف أمكن لشابّ في العقد الثالث من عمره الكتابة بكلّ هذا النضج وهذه الثقة، راسمًا معالم هواجسه الأدبية وخريطة عمله الفنّي وإحساسه بهذا الوضوح؟ نعم، هذا هو السؤال الذي يطرحه القرّاء. من أين أتى ساراماجو بهذه المعرفة، بالقدرة على وصف شخصياته بهذه الحذاقة والرشاقة والبلاغة في الرواية، وتناول مواقف بمنتهى العادية ولكن بغاية العمق، مواقف تنطبق على كلّ مكان وزمان، كيف له أن يكسر القواعد بهذه الطريقة العنيفة في سلاستها، السلسة في عنفها؟ شابّ لا ننسى أنّه كان لا يتجاوز ربيعه الثلاثين ولم يجلس على مقاعد الجامعة، لوالدين أمّيين من أجداد أمّيين، عمل ميكانيكيًا، وموظّفًا إداريًا في تلك الأيّام، كان له من الجرأة على تأويل ذلك الكون الذي يمثّله كلّ بيت، ببوصلته الخاصّة وبرفقة محبّبة من بيسووا، وشكسبير، وإيسا دي كيروس، وديدرو، وبيتهوفن. هذا هو المدخل إلى عالم ساراماجو، وهكذا بدأ تحديده منذ ذلك الزمن البعيد.
شخصيات ساراماغو
ونلتقي في «المنوَر» بشخصيات ساراماغو من الرجال: ذاك الذي دعاه بكلّ بساطة إتش في «دليل الرسم والخطّ»، وريكاردو ريس من «سنة موت ريكاردو ريس»، وريموندو سيفا من «قصّة حصار لشبونة»، ودون جوزيه من «كلّ الأسماء»، والموسيقي من «انقطاعات الموت»، وقايين، والمسيح، وسيبريانو ألغور، تلك المجموعة من رجال مقلّين في الكلام، وحيدين، وأحرار لا ينقصهم غير إيجاد الحبّ ليكسروا، ولو موقّتًا، طريقة عيشهم المكثّفة والانطوائية في هذا العالم.
وفي «المنوَر» أيضًا نساء ساراماجو القويّات. عندما يُعيد المؤلّف في شخصياته النسائية ابتكار القدرة على كسر القوانين تبدو هذه القدرة واضحة أكثر وفجّة أكثر: ليديا، الجميلة التي تعيش على نفقة رجل أعمال ومع ذلك قادرة على إعطائه دروسًا في الكرامة، حبّ امرأة لامرأة، الخضوع المتوارث في قلب العائلة والذي نكتشفه كواقعة مثيرة للشفقة، والإدانة الاجتماعية التي لا تطاق، والانتهاك، والغريزة، والجهد المبذول للحفاظ على المكانة الاجتماعية، ووضاعة الحياة، والاستقامة التي تحتضنها بعض الأجساد رغم ضائقة العيش ومشقّات الحياة.
«المنوَر» هي قبل أيّ شيء رواية شخصيات. المكان لشبونة والزمان أربعينات القرن العشرين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ولكن مع استمرار دكتاتورية سالازار التي تخيّم على الرواية مثل ظلّ ثقيل أو خلفية صامتة. هي ليست رواية سياسية وتستبعد منّا التفكير في أنّها عانت من تشدّد الرقابة أو أنّ هذا سبب عدم نشرها يومذاك. بيد أنّها بالنسبة إلى العادات والأفكار المتحفّظة في تلك الفترة، كانت رواية تتجاوز القيم السائدة، وترى في الخلية العائلية أحيانًا مرادفًا للجحيم وليس بالضرورة ملاذًا للطمأنينة، وفي مظاهر الأمور قوّة تبتعد بها عن حقيقتها وجوهرها، وتتناول مُثلاً تصوّرها كأهداف جديرة بالثناء لتستدرك بعد بضع صفحات فقط وتصفها بأنها نسبية، وتستنكر استنكارًا واضحًا الإساءة في معاملة النساء، وتروي بكلّ عفوية وطبيعية الحبّ المثلي المتلازم مع قلق الفرد ولو أنّه بنظر المؤلّف غير مدان. كلّ ذلك، وما يتضمّنه سائر الكتاب، أدّى دورًا ولا شكّ في قرار عدم نشره. كان، لصدوره عن مؤلّف مجهول، يتّخذ هيئة أكثر عنفًا، ويحمل أخطاراً كبيرة تستدعي جهدًا كبيرًا للدفاع عنه أمام الرقابة والمجتمع، ولا سيّما قياسًا بالربح الضئيل الذي كان سيعود به. وهكذا بقي الكتاب معلّقًا، من دون «نعم» تُلزم دار النشر، ومن دون «لا» قد تُحرجها في الغد. ويُحتمل أيضًا أنّهم في الدار، وهنا نعود إلى الافتراضات، وضعوه جانبًا في انتظار زمن مقبل، زمن مختلف، ولم يتصوّروا أنّ هذا الانتظار سيدوم عقودًا طويلة قبل أن تبدأ تباشير ما يسمّى انفتاحًا بالظهور، فتعاقبت الأجيال وحلّ معها النسيان، في العالم وفي دار النشر. كذلك كان لدى جوزيه ساراماجو وظيفة أخرى، كان يعمل مصحّحًا، ويشرع في تجاوز مرحلة الصمت والوحدة مستعدًّا لتأليف غيره من الكتب.
لم تكن الحياة سهلة بالنسبة إلى جوزيه ساراماغو. بعد خيبة أمله من تجاهل الناشرين وتركه من دون جواب بالنسبة إلى «المنوَر»، ذلك الكتاب الذي كُتب في ساعات الليل الطويلة، بعد انتهاء يوم العمل في مهن مرهقة، عانى ساراماجو من مهانات كان عليه مواجهتها لكونه مجهولاً، يفتقر إلى الدراسة الجامعية، أو الانتماء إلى النخبة، وكلّها كانت عوامل مهمّة في مجتمع صغير مثل لشبونة في خمسينات وستينات القرن الماضي. كان الذين أصبحوا زملاء له في ما بعد يسخرون منه لأنّه يتلعثم في كلامه، وهذه المشكلة الإضافية التي تجاوزها لاحقاً كانت تدفعه دومًا إلى الانسحاب، تاركًا فصاحة اللسان لغيره. كان يراقب ويعيش مقيمًا في عالمه الداخلي، وفي ذلك يكمن ربّما سبب وفرة كتاباته. بين اليوم الذي سلّم فيه مخطوطة «المنوَر» ويوم عودته إلى النشر مرّت عشرون سنة، وكانت ولادته الجديدة مع الشعر في «القصائد الممكنة» و«ربّما فرح»، أمّا النتاج الثالث «العام 1993» فكان بمثابة جسر إلى الرواية ظهر بعده كتابان ضمّا مدوّنات صحافية كانت أشبه بأجنّة من أدب الخيال. كذلك كان «المنوَر» حاضرًا ضمن مدوّناته، ولو أنّ أحدًا لم يكن يعرف بوجود تلك الرواية، المحفوظة في انتظار وصولها إلى القارئ كأكثر من مجرّد كتاب مفقود.
«المنوَر» هو الكتاب الذي استحقّه قرّاء ساراماغو. إنّه ليس بابًا يُغلق، بل على العكس هو يُفتح على مصراعيه للعودة إلى قراءة كامل أعمال الكاتب في ضوء أفكاره في شبابه. «المنوَر» هو المدخل إلى ساراماغو وسيكون اكتشافًا لكلّ قارئ. كما لو أنّ دائرة تكتمل، كما لو أنّ الموت غائب عن الوجود.