جرى رصد فيروس كورونا خلال كانون الأول/ديسمبر من سنة 2019 لكنه انتشر وتحول إلى وباء عالمي ابتداء من آذار/مارس من السنة الجارية. وقبل نهاية 2020 يبدو أن البحث العلمي قد توصل إلى لقاح أو لقاحات مقبولة نسبيا لاحتوائه، وهذا يقع أول مرة في تاريخ البشرية بعدما كان الدواء لأي داء يتأخر سنوات طويلة بل قرونا مثل حالة الطاعون والسل والحصبة وشلل الأطفال. وفي الوقت ذاته، تحول اللقاح ضد فيروس كورونا إلى مظهر من مظاهر الصراع الجيوسياسي في العالم، وحذرت الأمم المتحدة من تحول الأمر إلى “لقاحات تحمل العلم” أي القومية الطبية أو الصراع حول النفوذ في العالم.
بعدما توقف العالم ما بين اذار/مارس إلى ايار/مايو الماضيين في أول حجر صحي شامل تقريبا في تاريخ البشرية، تخوف الكثيرون من احتمال عجز العلم عن مواجهة هذا الوباء. فلا أحد كان ينتظر انتشار الفيروس بتك السرعة المرعبة حتى أسوأ التقديرات الطبية. ولما انتشر في كل مكان، اعتقدت البشرية في السيناريوهات المخيفة على شاكلة فيلم “العدوى العظمى” لستيفن سودربرغ سنة 2011. وتساءل الكثيرون: البشرية تغزو الفضاء وهي عاجزة عن تدبير دواء أو لقاح قادر على ضمان استمراريتها في الكرة الأرضية؟ ولعل المعطى الذي أقلق كثيرا البشرية هو تأخر البحث العلمي في التوصل إلى لقاحات ضد الفيروسات التي كانت تحصد ملايين الناس، بل الأخطر هو عجز البحث العلمي منذ مئة سنة، في أول وباء انتشر في مختلف قارات العالم “الأنفلونزا الإسبانية” سنتي 1918-1919، وهو الفيروس الذي اختفى بدون لقاح أو دواء وخلف وراءه ما بين خمسين مليون إلى مئة مليون من الوفيات ونصف مليار من المصابين.
وبدأت كل هذه الهواجس تتلاشى تدريجيا بعدما أعلنت الدول الكبرى عن بدء التوصل إلى لقاحات فعالة قادرة على وقف هذا الفيروس الذي يكاد يحطم مختلف الأشكال الاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها العالم بسبب الحجر الصحي، ثم محدودية الحركة عبر العالم ومنها تجميد السياحة والطيران بشكل يحيل على الحرب العالمية الثانية مع فارق في السياقات التاريخية.
اللقاحات الموعودة
أمام زحف الفيروس الذي يخلف المرض الذي يحمل اسم كوفيد-19 شرعت الدول الكبرى في البحث عن حلول طبية من خلال تمويل برامج البحث العلمي وتحت إشراف مركزي هذه المرة رغم تولي شركات كبرى مهام البحث. فقد وجدت الدول نفسها مجبرة على حل تفاديا للاحتجاجات اجتماعية. ولهذا قام رئيس دولة تتميز بالليبرالية المطلقة في مجال البحث الطبي مثل الولايات المتحدة بتعيين لجنة تشرف على هذه الأبحاث ووضع البنتاغون لتسهيل كل الدعم والمساعدة اللوجستية. واختار الرئيس ترامب المغربي منصف السلامي رئيسا للجنة. وتشارك وزارات الدفاع في الصين وروسيا في البحث والدعم لأن الأمر يتعلق بالأمن القومي للأمم.
ويشهد العالم أكثر من 150 مشروع بحث علمي لاحتواء فيروس كورونا، وفق منظمة الصحة العالمية في تقرير لها نهاية ايلول/سبتمبر الماضي. وبين هذا العدد الكبير، هناك تجارب محدودة واعدة فقط، وهي التجارب أو المحاولات التي قطعت شوطا وحققت نجاحا وقد تمر إلى مرحلة تلقيح الشعوب بداية السنة المقبلة وهي خمس وتعود إلى الصين وروسيا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وبلجيكا. وهذه المشاريع التي انتقلت إلى المرحلة السريرية الثالثة وتجري على عشرات الآلاف من الأشخاص هي:
بلجيكا: شركة جانسن للصيدلة التي تجري التجارب السريرية على 90 ألف شخص من الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وكولومبيا وبلجيكا.
بريطانيا: جامعة أكسفورد وشركة أسترازينيكا التي تجري تجاربها على 60 ألف شخص من الولايات المتحدة والشيلي والبيرو وبريطانيا.
الصين: شركة سينوفارم التي تنسق مع معهد بكين ووهان والتي تجري تجاربها السريرية في كل من المغرب والصين والبحرين ومصر والأرجنتين والبيرو والإمارات. ومن الصين، شركة كانسينو التي تجري تجارب سريرية بدورها خاصة في الصين وباكستان. علاوة على سينوفاك التي تجري تجاربها في الصين وتركيا وأندونيسيا.
المانيا-الولايات المتحدة: ويجري التنسيق بين شركة بيونتيك الألمانية وفايزر الأمريكية، وأجرت تجاربها السريرية في الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل ضمن دول أخرى.
الولايات المتحدة: شركة موديرنا التي يشرف عليها المغربي منصف السلاوي وتحظى بدعم قوي من طرف السلطات الأمريكية، وأجرت تجارب على أكثر من 40 ألف.
روسيا: شركة غاميلا التي تجري تجاربها أساسا في روسيا وبعض الجمهوريات السوفييتية السابقة، وتتجاوز التجارب السريرية 40 ألفا، وقد أطلقت على اللقاح اسم “سبوتنيك”.
وهذه الأبحاث العلمية تنهج منهجية مختلفة الواحدة عن الأخرى، بعضها كلاسيكي مثل تلك التقنية التي أسس لها علماء سابقون كلويس باستور وتطبقها الصين وهي تقنية “Inactivated vaccin” وأخرى حديثة في البحث العلمي مثل اللقاح البريطاني والروسي الذي يعتمد تقنية “Adenovirus vaccin”. وتعتمد التقنية الألمانية-الأمريكية ” mRNA vaccins”. ويبدو أنها حققت مستويات عالية من النجاح بما يتراوح ما بين 85 في المئة إلى 95 في المئة مثل حالة مودرنا في تعزيز المناعة ضد فيروس كورونا. تقنية مودرنا جديدة، ويترقب العلماء تأثيراتها ومضاعفاتها وهل ستفتح آفاقا جديدة للبحث العلمي. ويبدو أن اللقاح الصيني سيكون في الريادة بحكم اعتماده تقنية كلاسيكية، ولا يتطلب درجات حرارة استثنائية بل عادية، وتمتد صلاحياته إلى ثلاث سنوات علاوة على سهولة إنتاجه من طرف عدد من الدول.
عوامل مساعدة
ويتطلب تطوير لقاح سنوات على الأقل عشر سنوات خلال الثلاثة عقود الأخيرة وسنوات طويلة في الماضي. وعجز البحث العلمي عن إيجاد لقاح لفيروس السيدا حتى الآن، وقد حصد أكثر من 40 مليون من البشر منذ الثمانينيات حتى الآن. ولكن هذه المرة، في حالة فيروس كورونا، نجحت الإنسانية في إنتاج لقاح في السنة نفسها التي انتشر فيها الوباء. فقد ظهر بقوة خلال شباط/فبراير الماضي في الصين ولاحقا في العالم، وستبدأ عمليات التلقيح الأولى خلال كانون الثاني/يناير المقبل بل هناك من يتحدث عن منتصف كانون الأول/ديسمبر المقبل.
ويرصد الدكتور وأستاذ البيولوجيا الجزيئية محمد الشكري من المغرب وبلجيكا في تصريحات لجريدة “القدس العربي” أن العوامل التي ساعدت على نجاح البحث العلمي أو نجاح البشرية في الاقتراب من اللقاح الفعال هي عديدة ومتنوعة. ومن ضمنها، يبرز “البحث العلمي حقق قفزة نوعية خلال العقدين الأخيرين. فقد اتسعت رقعة البحث العلمي ولم تعد مقتصرة على دول معينة ومراكز أو شركات معينة، فارتفاع نسبة الجامعات في العالم ينتج عددا كبيرا من الباحثين الذين يتنقلون بين الدول. وكما يحدث في كرة القدم، حيث الفرق تسعى دائما إلى التعاقد مع النجوم الكبار، بدورها تسعى الشركات إلى استقطاب كبار الباحثين، ورأينا كيف يترأس الباحث المغربي منصف السلاوي الفريق المشرف على اللقاح في الولايات المتحدة”.
وفي معطى آخر لا يقل أهمية “التقدم الحاصل في الآلات التي تعمل بها المختبرات وبرامج الإعلاميات حيث قلصت الفترات الزمنية للتجارب من سنوات إلى شهور قليلة، فأجهزة الكمبيوتر العملاقة وآلات التحليل الدقيقة لعبت دورا فعالا في عملية تسريع التوصل إلى نتائج”.
ويقف على عامل هام للغاية وهو “انخرط الرأي العام العالمي في البحث عن اللقاح، فهذا الفيروس أثر على البشرية، ولا حديث للناس في العالم سوى يوم النجاة، أي العثور على اللقاح. هذا الاهتمام دفع بمئات الآلاف من الناس في مختلف الدول إلى التطوع للخضوع للتجارب السريرية وهناك أكثر من نصف مليون متطوع وهذا مبهر، علاوة على دول متنوعة مثل المغرب وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وأندونيسيا و… علما أنه في الماضي كان التطوع نادرا وهذا أعاق تطور البحث العلمي. رغم نظريات المؤامرة والتخويف من اللقاح، لقد اكتسبت البشرية وعيا جديدا ويتجلى في رغبتها في المساعدة عبر التجارب السريرية، وهذا منعطف هام”.
الصراع الجيوسياسي
رغم انتشار الفيروس في العالم وتهديده للبشرية، لم تعمل هذه الأخيرة ككتلة لمواجهة الجائحة بل تحول البحث عن اللقاح إلى مواجهة جيوسياسية بكل المقاييس بين الدول الكبرى، وما يترتب عن ذلك من استقطاب للدول وكأنها حرب طبية باردة. وكانت منظمة الصحة العالمية قد نبهت من هذا المنحنى عندما حّذرت من “لقاح يحمل العلم” في إشارة إلى التوظيف السياسي للدول الكبرى للقاح سواء استقطاب دول معينة أو حرمان أخرى منها.
وعملية التلقيح لتحصين المجتمع تترجم عمليا باستعادة النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ثم عدم فقدان الريادة بالنسبة للدول الكبرى. فقد نبه الرئيس الأمريكي ترامب كيف سيطرت الصين على الوباء بينما اقتصاد الولايات المتحدة متوقف. وكبد الفيروس الغرب تراجع الاقتصاد ما بين 15 في المئة إلى 12 في المئة بينما لم يتراجع الاقتصاد الصيني.
اللقاح يقسم البشرية إلى قسمين، دول قادرة على إنتاج اللقاح أو اقتناءه ودول فقيرة لا إمكانيات لها. وهذا شرخ آخر يضاف إلى الشرخ المتفاقم والمستمر، الشرخ الاقتصادي المتمثل في العالم الأول والعالم الثالث وبينهما دول في منزلة بين المنزلتين. حجزت الدول المصنعة للقاح حصة الأسد لنفسها وهي الصين والولايات المتحدة وروسيا، بينما قامت الدول أو تكتلات مثل الاتحاد الأوروبي بتخصيص مليارات الدولارات لشراء اللقاح من الولايات المتحدة وبريطانيا بل وهناك محاولات لاقتناء اللقاح الصيني والروسي.
وتبقى الدول الفقيرة أو الغارقة في الديون وأساسا الدول الأفريقية تقريبا مثل المتفرج العاجز. ولم تصدر عن الغرب مبادرات رسمية لمساعدة الدول الفقيرة رغم إلحاح منظمة الصحة العالمية. وتوجد استثناءات مثل موقف الملياردير بيل غيتس الذي يلح على مساعدة الدول الأفريقية. وتراهن أفريقيا على الصين بالدرجة الأولى ثم روسيا بالدرجة الثانية. وهذا الرهان يعود إلى إدراكها برغبة بكين مساعدة القارة السمراء لأهداف استراتيجية، أي تعزيز الصين لنفوذها المتعاظم في القارة. وكما ساعدت بكين القارة السمراء بالمساعدات الطبية عندما تخلى عنها الغرب في بداية الجائحة، ستطبق السياسة نفسها في حالة اللقاح. وسيكون اللقاح أداة جديدة للصين للتمركز في القارة السمراء.
تحدي التلقيح عالميا
السؤال الذي يردده الكثير من الباحثين كم من الناس يجب تلقيحهم لإنقاذ البشرية من خطر الفيروس واستعادة إيقاع الحياة الطبيعية؟ كل دولة تحتاج إلى استراتيجية مختلفة تأخذ في عين الاعتبار الكثير من العوامل وعلى رأسها دينامية التحرك في كل دولة ومستوى انتشار وكثافة السكان. وتخطط الدول للقيام بتلقيح القطاعات الاستراتيجية في البلاد التي لديها اتصال مع جميع أفراد المجتمع وهي: قطاع الصحة وقطاع الأمن وقطاع التعليم ثم الخدمات عموما مثل السياحة والتجارة. وإذا جرى تلقيح 10 في المئة في كل دولة وخاصة في القطاعات الحساسة، هذا سيكون مؤشرا هاما لاحتواء فعلي الوباء.
في الوقت ذاته، المدن المركزية الكبرى التي تشهد حركة كبيرة في السياحة وعالم المال والأعمال والسفر والصناعة، إذ أن مدينة مثل لندن ستحتاج إلى تلقيح أكثر من مدينة مثل باث في بريطانيا. ومدينة عملاقة مثل الدار البيضاء أكثر من مدينة مثل الشاون في المغرب. في الوقت ذاته، نسبة التلقيح في الدول التي تشهد مؤشرات مرتفعة للوفيات والإصابات ستكون أكثر من الدول التي تشهد إصابات ووفيات محدودة. في هذا الصدد، التلقيح في الدول الغربية سيكون أعلى منه في الدول الأفريقية مثلا. ويضاف إلى هذا عامل آخر وهو الدول التي لديها نسبة عالية من الشباب لن تحتاج إلى عمليات تلقيح كبيرة مثل الدول التي لديها نسبة الشيخوخة مرتفعة. ويقدر الخبراء أن تلقيح 10 في المئة من كل مجتمع وخاصة الفئات المختارة مثل الصحة والتعليم والأمن والخدمات كافي لاحتواء الفيروس مؤقتا في أفق التلقيح الشامل كما يحدث مع باقي الفيروسات، أي التلقيح في فترة الطفولة.
وهناك بعض التحديات التي ستتحكم في خريطة اللقاح عالميا وهي الكمية المنتجة من اللقاح التي سوف لن تكفي الجميع في المرحلة الأولى ثم طريقة الشحن والحفاظ عليه في مستويات معينة من البرودة. لقد صرح الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش “يجب اعتبار اللقاح ضد الكوفيد-19 منفعة عامة عالمية، لقاح لصالح الشعوب”. وسط صراع الدول الكبرى حول اللقاحات، هناك تجارب إنسانية رائدة مثل تأسيس دول وجمعيات خيرية وباحثين ومستثمرين لائتلاف “كوفاكس” الذي يهدف إلى جمع ملياري دولار حتى نهاية 2021 لتعميم اللقاح على الدول المحتاجة.