سيناريوهات ورهانات انفصال كاتالونيا عن اسبانيا و تحدياته و محدوديته (2/3)

رئيس حكومة كتالونيا أرثور ماس خلال إعلان الاستفتاء على بقاء أو انفصال كتالونيا

إنَّ تحديات النزعة الكتلانية الانفصالية الكثيرة و المختلفة ليست بالهينة. فأصعب هذه التحديات يهم الاستفتاء بعينه، بحيث يُعد استفتاء من طرف واحد و يعوزه الإجماع و الاستناد إلى القواعد القانونية، و عليه فإن نتائجه، بالرغم من امكانية تأييدها للنزعة الانفصالية أو غير ذلك، فعلى الأرجح ستكون من غير وقع يُذكر، اللَّهم إذا ما تم الالتفاف على نتائجه بذكاء و تم تدويلها بدهاء و توظيفها أوروبيا و تسيسها داخليا، و ذلك بتوظيف التلويح بإضرام نار القوميات الانفصالية و الأقليات الأثنية بإسبانيا برمتها، و استقطابها و وقوفها جمعاء بوجه الدولة الإسبانية.

فانطلاقا من السلطات القضائية الاسبانية نفسها، و مُرورا بالمحاكم الأوروبية و انتهاء بتشريعات الأسرة الدولية، فإنَّ معارضة سلطات مدريد المركزية للنتائج الاستفتائية ستستند إلى عدم قانونية الاستفتاء باعتباره، أولا، خارج عن الإطارات القانونية و خطوة غير دستورية، و ثانيا، بالاستناد إلى عدم إجرائه قِياسا بتجارب دولية و تحت إشراف هيئات تحكيمية و إدارة ثنائية مُشتركة مُتفق عليها و متوافق بشأنها و وِفق تدابير مشهود بها و ضمانات و التزامات معينة، و ثالثا، بسبب تشدد الحكومة القائمة، اليمينية و المحافظة، المُتوجسة منه أصلا.

بالإضافة إلى امكانية إحجام الاتحاد الأوروبي بمؤسساته و تشريعاته على الاعتراف بالنتائج، تسويغًا لخطوته التكتلية و الاندماجية، وانتهازًا لفرصة عدم الاصطدام بالنزعات الانفصالية مُستقبلا، إلا أنه يمكن أن ينئ بنفسه، مُتبنيا الحياد بدل الانحياز، بمُبرر أن المسألة اسبانية / اسبانية و شأنا داخليا بحثا، قياسا بما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن المُرجح إذا ما قامت النتائج بتأييد النزعة الانفصالية، امكانية ميلانه إلى المناداة بالتسوية التوافقية أو الوساطة.

فعمليا، حيادية الاتحاد الأوروبي مُمكنة إذا استحضرنا أرواق النزعة الانفصالية. فالنزعة تستند في مرافعتها المطلبية، كونها قومية مُغايرة للقومية الإسبانية و ذات شعبية كبيرة و مُؤيدة بمسيرة فاقت المليونين مُتظاهر من أصل ثمانية مليون تقريبا من ساكنة المُحافظة، ناهيك عن اختلالات شابت موازين القوة بالمُحافظة نتيجة تراجع كبير للأحزاب التقليدية و صعود كبير للأحزاب القومية، و عليه، فالنزعة الانفصالية أصبحت أغلبية في الوقت الذي كانت فيه أقلية عددية.

فهذه الإمكانية، واقعيا و عمليا، مُمكنة للغاية، إذا ما أجاد صقور النزعة الانفصالية الكتلانية اللَّعب بذكاء على وتر التناقضات الأوروبية الكثيرة وتمكنوا من اللعب بحذاقة على اختلاف المواقف بها، خاصة و أنه بالدول الأوروبية نجد تفاوت كبير بين اللاعبين المُؤثرين بقراراتها، بحيث نجد تفهُّما إلى حد ما من المملكة المتحدة، المُكابدة من الحالة الاسكتلندية، و تعاطفا من الأقطار الإسكندنافية، الجِد متقدمة في الديموقراطية الترابية، و حيادية من طرف فرنسا و ألمانيا.

فَحِيادية أوروبا ليست مُتعذرة، و ذلك باعتماد النزعة الكتلانية في قضيتها الانفصالية على المقاربة التفاوضية و الحوار، خُصوصا بإعلانها مُسبقا عن تنظيم الاستفتاء بدلا من نهج المقاربة المُسلحة، خلافا لنظيرتها الباسكية، بهدف استجابة مدريد للنداءات الكتلانية و التجاوب معها بطريقة تفاعلية، لبلوغ صيغة ملائمة للإشكاليات الكثيرة و الكبيرة بالمُحافظة الكتلانية. أمَّا تشدد السلطة المركزية بمدريد، فيخدم أجندة النزعة الانفصالية الكتلانية، بإظهار اسبانيا مُتعنتة و النزعة مُنفتحة.

و بناء عليه، يُنتظر من النزعة الكتلانية الانفصالية، السلمية و الشعبية، أن تعمد إلى تكثيف اتصالاتها الخارجية عبر قنواتها الديبلوماسية المُتعددة و المُؤثرة، للاعتراف بشرعية مطالبها و حماية نتائج الاستشارة الاستفتائية المُرتقبة، للضغط على الحكومة الإسبانية، المعارضة و الرافضة، و استعمالها بذلك كورقة شرعية لتغديه شعبيتها المتزايدة يوما بعد يوم في الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة و استمرارها في اذكاء النزعة القومية الكتلانية الاستقلالية ضد الدولة الإسبانية.

بيد أن الأكيد هو أنَّ النزعة القومية، بأحزابها السياسية و مُؤسساتها الفاعلة و مُقاولاتها القوية تعتمد في أجندتها الاستقطابية علاوة على التعبئة الداخلية على توظيف الدبلوماسية الاقتصادية و ديبلوماسية النجومية و التركيز في خطاباتها المُوجهة للخارج على حقوق الأقليات و استثمار خطاب التعددية الاثنية و الاختلاف بالمُحافظة و استغلالها بنجاح لوسائل الاعلام الأجنبية الأكثر نفودا و تأثيرا، و ذلك بإظهارها للمملكة الاسبانية ضعيفة و المحافظة الكتالانية قوية.

ناهيك عن الاستفادة من امكانيات اقتصادها الهائلة و توظيفها كأداة دبلوماسية نافذة، لمنافسة اسبانيا بالعديد من مناطق نفوذها، بهدف استقطابهم و التأثير على حيادهم و  اكتساب مزيد من التأييد لها، مِمَّا يُؤشر على أنَّ النزعة تجتهد في نسج علاقات ثنائية بناءة و إقامة شراكات مهمة و خلق مصالح مشتركة و تحالفات قوية مع العديد من الأطراف و الجهات النافذة و إحداث علاقات قوية مع الشركات المتعددة الجنسيات و إقامة علاقات مع المنظمات الغير الحكومية ذات النفوذ و التأثير.

 فميدانيا، تقوم النزعة الكتلانية، بعد نجاحها في تهيئة بيئة مناسبة لتحركاتها التحررية، بنهج ديبلوماسية القوة الناعمة في تدويلها لمشاريعها الانفصالية و التشديد في خطاباتها الخارجية على استقلالية هويتها، و ذلك بالترويج على أنها ذات انتماء إلى الاثنية الأوروبية و الديانة المسيحية و القومية الكتلانية و تسويق فكرة ذكية مفادها أنه كلما كانت النزعة القومية ذات سيادة و مُستقلة عن المملكة الإسبانية، كلما كانت أكثر ثراء و ازدهارا، و ذلك باللعب على وتر الأزمة الإسبانية.

إلا أن ما قد يُنذر بمزيد من تأزيم العلاقة، المُتدهورة أصلا بين الحكومة المركزية و الحكومة الجهوية الكتالانية، نتيجة غياب الثقة المُتبادلة أصلا، يتجلى في قيام قيادة النزعة الانفصالية بإسراع وثيرة الإكثار من الاتصالات بالأوساط الغير الودية مع اسبانيا، و ذلك إدراكا منها بأن العديد منها مُهتمة بها و مُتتبعة لمسار و تطورات النزعة الكتالونية الصاعدة و مُتربصة بالمملكة الاسبانية المُتهاوية، و عزم صقور النزعة توظيف هذه الورقة، نكاية في اسبانيا، بغية مُعاكستها.

بالإضافة إلى ترويجها لنجاحها في سياستها الاندماجية لمُقاربة الأقليات الأثنية المُقيمة بها و ذات النفود المؤثر و نجاح سياستها التفاعلية لمُقاربة التنظيمات الإسلامية الراديكالية بالمقارنة مع المقاربة الأمنية و الردعية الاسبانية، بهدف كسب ثقة هذه الجالية المليونية و ربح بلدانها، خاصة و أنَّ المُقاربة الكتلانية الناعمة و الذكية تقوم على توعية هذه الجالية بتثقيفها و تحسيسها و تحويلها إلى مُعتدلة، في الوقت الذي  تقوم فيه اسبانيا بتحديها و ترهيبها ممَّا يُأججها.

الأكيد اليوم، بالنهاية، هو أنَّ الحالة السيكولوجية السائدة بإسبانيا، عنوانها الكبير الشعور بالخوف و التَّرقُّب، و غير قادرة على استيعاب المُحافظة الكتلانية مُستقلة عن اسبانيا مهما كانت الدوافع و المسوغات، وهم بذلك يعتبرون اللحظة مفصلية و منعطفا حاسما للغاية، سواء تعلق الأمر بالنخبة السياسية، الحاكمة و المعارضة، المُتشائمة و المُترقبة، و العقيدة الدفاعية و العسكرية، المُتشددة مع النزعات الانفصالية و الأطياف الكنائسية، المُتحسسة من التيارات القومية.

أحمد بنصالح الصالحي: مُهتم و مُتتبع للعلاقات المغربية-الإسبانية و المغربية الأمريكية-اللاتينية

المقال الأول: سيناريوهات ورهانات انفصال كاتالونيا عن اسبانيا و تحدياته و محدوديته 3/1

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password