تُشير العديد من المُؤشرات الاستقرائية و الدراسات البحثية و البيانات الاحصائية و الميدانية إلى إنَّ سباق النزعة الكتلانية الانفصالية عن المملكة الإسبانية يسير بوثيرة مُثيرة و غير مسبوقة نحو نقطة نهايته، وحتى إن كانت هذه النهاية غير معروفة إلى حدود الساعة، إلا أنَّها بالتأكيد محصورة بين خيارات جد محدودة؛ فإمَّا بلوغ المُحافظة الكتلانية إحراز انفصالها تماما عن المملكة الاسبانية وتأسيس جمهورية جديدة وإمَّا استمرارها كلية تحت سيادتها و تكريس تبعيتها لها و إمَّا انتزاعها امتيازات نوعية و حصرية.
فالمُحافظة الكتلانية، ذات الحكومة الذاتية بموجب دستور 1978 القائم إلى حدود اليوم، المُتنازع عليها بين مختلف مكونات النزعة الانفصالية الكتلانية، السياسية و الاقتصادية و القومية، وبين الدولة الاسبانية، بمؤسساتها الملكية و العسكرية و الكنائسية تعد اليوم، حتما و بالضرورة، تحديا حقيقيا بالنسبة لجميع الأطراف المتنازعة. فالدولة الاسبانية ستُسخر كافة امكانياتها لتأمين تبعيتها لها و المُحافظة بدورها ستسخر كافة أوراقها للالتحاق بركب القوميات المُستقلة في عالم اليوم.
فعمليا، بدأت تأخذ النزعة الاستقلالية الكتلانية عن المملكة الإسبانية رويدا رويدا أبعادا دولية، بعدما كانت منذ سنوات خلت، شأنا داخليا اسبانيا صِرفا، خصوصا بعدما ادركت القومية الانفصالية أنه من دون التعبئة، فإن هدفها سيكون قدره الانتكاسة، و علية كانت المراهنة على الجبهة الداخلية كأداة حاسمة لمُقاومة السياسة الاحتوائية الإسبانية، ما جعلها اليوم تقوم، ربَّما، برسم ما بعد استقلالها و إعداد عُدتها و عتادها للخروج للعالم الجديد بأنفة و أريحية و كأن المسألة باتت محسومة.
إلا أن مُقاربة النزعة القومية الكتلانية، بمنهجية نزيهة و حيادية، يستقيم بالرجوع إلى اختبار جديتها و صدقيتها، و ذلك بطرح تساؤلات اشكالية متعلقة بأرجحية علاقتها بالمناورة السياسية الانقلابية على المملكة الاسبانية أو المساومة السياسية للحكومة القائمة أو المزايدة ذات الخلفيات القومية على الهوية الإسبانية، كما يستقيم أيضا بسط تساؤلات مُتعلقة بنوايا قيادتها و استقلاليتها عن الأطراف الخارجية و مستويات نضجها و درجة بلوغها و هل هي وسيلة لبلوغ أهداف سياسية أم غاية بعينها.
فلتبيان جديتها و صدقيتها – من دون التشكيك بها – تجدر الإشارة إلى أنَّ بلورة أهداف النزعة الكتالانية تستند بالإضافة إلى المراهنة على التعبئة الداخلية القوية إلى عزم كبريات المُقاولات الكتالانية، الفخورة بقومتيها، تعزيز مكاسبها و تأكيد أدائها، خِلافا للمُقاولات الإسبانية، المُتهاوية تباعا بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية، و إقدام الأحزاب القومية بجُرأة و نخوة على إجراء استفتاء تقرير المصير، بتوظيفها بذكاء لوجود بيئة أوروبية مناسبة تتزايد فيها المطالب بنشأة الأقطار القومية.
فاليوم، تنجح النزعة الانفصالية الكتالانية داخليا و شعبيا في تعبئة و تملك مزيد من الأصوات الانفصالية المطالبة بالاستقلالية عن المملكة الاسبانية، مِمَّا يفيد بأنَّ ما تحقَق و يتحقَق من مكاسب يسير على الأرجح بخُطوات و تحركات مدروسة، بما يُبذر بأنَّ المُحافظة الكتالانية، ذات الحكومة الذاتية، مُرشحة لتكون القشة التي ربَّما ستقسم ظهر اسبانيا، بعدما اردتها الأزمة الاقتصادية في حكم الغيب، خصوصا بعدما أشارت التقارير الاستشرافية بأنها لن تستعيد عافيتها نسبيا إلا بعد سنة 2020.
بيد أنَّ الأكيد اليوم هو أن النزعة الانفصالية الكتلانية، بخروجها بهذه القوة، أصبحت أمرا واقعا ينضاف إلى تحديات اسبانيا الكبيرة. فتنظيم استفتاء تقرير المصير، يومه التاسع من نوفمبر 2014، يُعتبر في حد ذاته، سواء كانت نتائجه انفصالية أو غير ذلك، نصرا كبيرا للغاية للقومية الكتلانية، إلا أنه قد يُصبح، مُستقبلا، تأكيديا للنزعة الانفصالية. فسرعة و قوة و حجم و تطور الأمور بوسعها حسم العديد من الأمور بإسبانيا للتمهيد ربَّما لثنيها آخر صفحات وحدتها لتصبح بذلك نسقا سياسيا آخر.
فبما أن نتائج الاستفتاء غير معروفة حاليا، اللَّهم التكهنات المُتضاربة و الاستطلاعات المُتباينة، إلا أن النتائج ستكون بالتأكيد مُحفزة للنزعة الكتلانية و مُقلقة للدولة الإسبانية. فإذا ما استقلت الأخيرة، فلا يُستبعد أن تكون سببا مُباشرا لبداية عدم الاستقرار بإسبانيا و امكانية دخولها في دوَّامة الانفصالات المتتالية، خصوصا و أن النزعة الكتلانية ليست الوحيدة المُطالبة بانفصالها عن المملكة الإسبانية، فهناك أيضا العديد من الأقليات الانفصالية كالنزعة الباسكية الراديكالية و جزر كناريا.
فمُجرد الاعلان عن إجراء استفتاء تقرير المصير بالمُحافظة الكتلانية، باعتبارها قومية مختلفة و طامحة لبلوغ استقلالها عن اسبانيا، يُعد تحديا حقيقيا للدولة الاسبانية، الرافضة و المعارضة له بشدة، خشية أن يعصف ببنيتها و نسقها، فتنشب بذلك أزمات جديدة و توترات حادة مع النزعة الانفصالية الكتلانية، قد يمتد لهيبها إلى الخلايا النائمة الكثيرة بإسبانيا، وقد تنتشر انتشار النار في الهشيم، ليبدأ بذلك الحديث عن الملامح و المعالم الجغرافية الجديدة للدولة الاسبانية المُستقبلية.
فمسألة التصميم على تنظيم الاستفتاء، بعد تهديدات سابقة بإجرائه، يُعتبر تصعيدا مقصودا و تجسيدا واضحا للصراعات الأزلية بين السلطة المركزية بمدريد و النزعة الكتلانية ببرشلونة. أمَّا نتيجة الاستفتاء، فكيفما كانت، ستعد بمثابة انتصار للقومية الكتلانية، إلا أنها ستقوم بتوريط مدريد إن كانت انفصالية في ردود عنيفة، ستورطها بدورها في ردود دولية مُتعاطفة مع القومية الكتلانية، ما قد يمهد لواقع جديد قد تخسر فيه مدريد الكثير من المكاسب و تربح فيه برشلونة الأكثر.
غير أنَّ المؤكد هو أنَّ الإصرار على تنظيم الاستفتاء أحدث قدرًا من التأزيم على جميع الأصعدة و بين جميع الفرقاء بإسبانيا. فالجهات المناوئة له وصفته بالخطوة اليائسة و الغير قانونية و المخالفة للدستور، بينما القومية الكتلانية، المُطالبة به، ترتاب من امكانيته تحقيق رغبتها في الانعتاق و التحرر، خصوصا بعد رفضه بقوة و إدانته بشدة من طرف مدريد، و إن كانت و ما تزال تستهين به، بينما أطراف الجوار، تلتزم الحيادية، مخافة التأثر بهذه المعركة و امكانية الاكتواء بتداعياتها.
الأكيد بالنهاية أنَّ الاستفتاء بدأ يثير حفيظة مدريد، المُنشغلة بأزماتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، بحيث أنَّ موقفها انحصر فقط في التذكير بعدم دستوريته من دون التلويح بمنعه تحت طائلة القانون و ذلك بتوظيف ورقة الاستشارة الاستفتائية الأحادية الجانب، إلا أنَّ تحديد تاريخ بعينه، اعتبرته مدريد، استفزازا و تصعيدا، يستلزم تحركا ردعيا بنسفه، و إلاَ فإنَّ الأمور ستزداد تعقيدًا و قد تخرج حتَى عن نطاق السيطرة، لا سيَّما و أنَّ الظرفية و البيئة الاقليمية ليست في صالحها.