لقد طغى النقاش الآني في الكتابة السياسية بالمغرب، إذ غاب التحليل التاريخي لفائدة تحليل الظرفية الراهنة خاصة الصراعات التي لا تنتهي ما بين الفرقاء السياسيين داخل الأغلبية وما بين المعارضة والحكومة الملتحية. هكذا فنحن قبل أن ننام وحين نستيقظ نبدأ البحث عن الخبر: هل استقال وزراء الاستقلال؟ هل سيتحالف بنكيران مع الأحرار؟ هل سينجح رئيس الحكومة في لم شمل أغلبية جديدة؟ هل سنذهب إلى انتخابات سابقة لأوانها؟ هل حكومة وطنية في الطريق؟ هل رأس بنكيران هو المطلوب؟… أسئلة لا تنتهي، مهمة ولكن لن تفيدنا في شيء إن لم نضعها في سياقها العام والتاريخي حتى نتمكن من فهم واقعنا الحالي على ضوء تراكمات الماضي وتنبؤات المستقبل…
في جل أدبيات الأحزاب السياسية العريقة كان التقرير العام يتشكل جزء كبير منه من وضع الحزب وإستراتيجيته في إطار صيرورة تاريخية يحدد التقرير أهم مميزاتها وأهم القوى الاجتماعية الفاعلة فيها ويستنتج من خلالها المطالب ذات البعد التاريخي وتلك ذات البعد المرحلي…
وحتى لا نبقى في العموميات، نعطي مثالا بسيطا… في فترة الاستعمار الفرنسي تأسست “كتلة العمل الوطني” سنة 1937 ومن بعد “الحزب الوطني” الذي طرح سنة 1944 وثيقة المطالبة بالاستقلال والتي شكلت هدفا تاريخيا لحصول المغاربة على الاستقلال من الاستعمار ووثيقة تعبئة لسنوات حتى رضخ المستعمر وحاز الوطن على استقلاله سنة 1956 …
وما بين 1937 و1956 وقع مد وجزر، انفتاح وقمع، مواجهات ومفاوضات ما بين المستعمر والقوى الوطنية، ونفي للملك الشرعي الوطني محمد الخامس وتنصيب دمية المستعمر ابن عرفة كملك مكانه مما أدى إلى تأزم الوضع وانبثاق مقاومة مسلحة أدت إلى ثورة الملك والشعب ومفاوضات “إيكس ليبان” واستقلال المغرب… المقصود من هذا التذكير هو كون العمل السياسي يتطلب نفسا واستمرارية وثباتا وحسن تدبير المراحل وللعلاقة ما بين الأهداف الاستراتيجية والمطالب المرحلية…
قلت أنه غابت اليوم، النظريات الاجتماعية وغاب التحليل التاريخي وطغى التحليل السياسي الظرفي رغم أهميته… السؤال المطروح هو في أية مرحلة تاريخية نوجد ونتصارع؟ ما هو المشروع المجتمعي للفرقاء السياسيين ؟ ما هي القوى القادرة على المطالبة بإصلاحات عميقة ؟ ما هي الإطارات الحزبية والنقابية والمؤسساتية المؤهلة للعب دور ما في إنجاح الإصلاح ؟
أود تنبيه القارئ أن مقال كهذا لا يمكن أن يفي الغرض حول موضوع يتطلب أبحاث ودراسات وندوات وجدال وحوار ونقد نظرا لأهميته وتشعب مداخله… إلا أنني سأدلي بدلوي متمنيا فتح نقاش حول السمات العامة للظرفية التاريخية الحالية… ولن أخفي على القارئ أن هذا الموضوع كان حاضرا منذ مدة في ذهني وأن مداخلة للأستاذ عبدالله بها خلال تأطيره لنشاط لحزبه، عمم عبر الإنترنيت، عجلت بتناولي هذا الموضوع الهام…
قال عبدالله باها، كاتب الدولة وأحد القياديين البارزين في المرحلة الراهنة وهو يتحدث خلال لقاء مع الأطر الطبية المنتمية لحزب العدالة والتنمية، أن هناك صراع تاريخي بين نخبتين، نخبة عصرية علمانية تعيش بعيدا عن هموم المواطنين وعن هويتهم الإسلامية ونخبة جديدة هي أيضا عصرية ولكن تحمل وتدافع عن هوية المغاربة وقريبة منهم ومن دينهم…
ويقول القيادي الإسلامي، أن هذا الصراع بدأ مع دخول المستعمر الفرنسي الذي وجد مقاومة عنيفة من طرف النخبة التقليدية المتشبثة بهويتها الإسلامية فقرر المستعمر خلق نخبة عصرية جديدة تحمل قيم الغرب وهي النخبة التي ما زالت تتحكم إلى يومنا هذا في جل المرافق الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتي تحاصر تجربة حكومة عبدالإله بنكيران وتقاوم النخبة العصرية الجديدة ذات الارتباط بالشعب وبهويته الإسلامية…
هذا ملخص موجز لما قاله القيادي في حزب العدالة والتنمية ولكن يلخص إلى حد ما جزء من التصور التاريخي للحزب ورهانات المرحلة الراهنة في سياقها العام. يمكن الاستنتاج مما سلف أنه بالنسبة للإسلاميين فإن الصراع الحالي حول إنجاح أو فشل الحكومة هو جزء صغير من صراع شامل وطويل جذوره تعود إلى فترة الاستعمار من خلال خلخلة التربة الاجتماعية المغربية ونتائجه لا يمكن أن تظهر إلا في المدى البعيد… الاستنتاج الثاني هو كون التدرج في الإصلاح عملية شاقة وطويلة وتاريخية وأن الفاعل الإسلامي واع كون هذه التجربة الحكومية لن تكون الأولى أو الأخيرة بل ستعقبها فترات المد والجزر وأن الأهم هو الدفاع عن الإصلاح في إطار الاستقرار والحفاظ على النظام الملكي والهوية الإسلامية للمغاربة…
هناك قراءة أخرى ليست بعيدة عن السابقة تقول أن أهم ما يميز المرحلة التاريخية الراهنة هو الصراع من أجل إصلاح الهيئات التمثيلية من برلمان وحكومة وجماعات محلية وقروية من الداخل حتى تستطيع أن تلعب دورها وتكون إطارات للإصلاح ورافعات للتنمية وذلك عبر تنقيتها من كل التراكمات السلبية التي عرفتها من تزوير لإرادة الناخبين إلى تفشي الرشوة والفساد وتحولها إلى أدوات للاستبداد عوض واحات للحوار الديمقراطي البناء وأوراش للتفكير والابتكار خدمة للمواطن والصالح العام…
ويعتبر هذا التحليل أن الدولة، بعد الصراع السياسي المرير مع المعارضة الوطنية في الستينيات والمحاولات الانقلابيتين في بداية السبعينيات، اهتدت إلى ضرورة نهج سياسة جديدة تمحورت حول خلق، عبر سياسة المغربة، طبقة اقتصادية تساندها والانفتاح التدريجي على المجتمع، عبر المسلسل الديمقراطي، لاستقطاب المعارضين وخلق نخبة سياسية “انتخابوية” داخل الجماعات المحلية والقروية والغرف المهنية والبرلمان، تكون السند القوي للنظام وواجهة بينه وبين الشعب… سيقول البعض كوني أغفلت أن المسلسل الديمقراطي جاء كثمرة نضال الشعب المغربي وقواه الوطنية آنذاك خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية… ومن يمكن أن ينكر ذلك…
وعلى ذكر هذا الحزب الوطني، الكثيرون يتساءلون عن تصوره التاريخي للمرحلة الراهنة… وهو الحزب المعروف بتقريرين مهمين الأول يتعلق بالاختيار الثوري للمهدي بن بركة والثاني بالتقرير الإيديولوجي لعمر بن جلون، قادة تاريخيين للحزب…
لا أتحدث عن أدبياته الراهنة وهي موجودة بل عن تداول أهم أفكارها عند العام والخاص ومختلف الشرائح الاجتماعية… أعطي مثالا بسيطا، حين تسأل مواطن مغربي عادي حول حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة تجد في معظم الأجوبة إشارات إلى الإسلام والمعقول والتماسيح والعفاريت، وحين تسأل عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تجد عند عامة الناس كلمات على شاكلة “كان يا ما كان”، ولن تجد إشارات إلى الاشتراكية والنضال الديمقراطي والدفاع عن الشعب… أقول جهرا ما يقال فيما بين المواطنين العاديين…
إن هذا التقييم في حق حزب وطني، ما زلت أعتبره إطارا جماهيريا لم يستنفذ مهامه التاريخية بعد، هو نتيجة لغياب البوصلة التي كانت تحدد ماهية هذا الحزب الوطني الذي كان يعتبره المغاربة حزبهم المعارض للسياسات الحكومية اللاشعبية لسنوات وإذا به ينخرط في التناوب الديمقراطي الذي انتظره المغاربة كثيرا وخرج منه الحزب، كما يعلم الجميع، بنكسات ما زالت إلى يومنا هذا تنخر جسمه إذا لم يتم إعادة قراءة صحيحة لمشاركة الحزب في الحكومات المتعاقبة وخاصة حكومة “ادريس جطو” التي شكلت انقلابا على المنهجية الديمقراطية…
نفس الشيء يمكن أن يقال على حزب وطني آخر هو حزب الاستقلال الذي عاش مؤخرا صراعات داخلية عميقة ومواجهات خارجية كبيرة مع حزب العدالة والتنمية يصعب التكهن بنتائجها… لكن المهم هو وضع هذا الصراع في إطاره التاريخي بمعنى آخر هل استنفذ هذا الحزب تاريخيته المرتبطة بمهام الاستقلال الوطني من المستعمر وأصبح مطالبا بتحديد هويته الجديدة خاصة وأن فاعل سياسي جديد هو حزب العدالة والتنمية احتل مساحات شاسعة من خطابه الديني “السلفي”…
أيضا النقابات التاريخية كالاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل مطالبتان بتحديد خطهما الاستراتيجي على ضوء المتغيرات التاريخية الراهنة والتحولات المجتمعية… النقابة الأولى استنفذت جزء من دورها المحدد في الاتفاق المبرم ما بين أوفقير والمحجوب بن الصديق حول النقابة “الخبزية” والابتعاد عن السياسة أما نقابة المناضل محمد نوبير الأموي فعليها تحديد استراتيجية جديدة ما دام دورها السياسي-النقابي يظهر أنه استنفذ…
من وجهة نظري كان الصراع السياسي منذ 1961 إلى 1999 يتمحور حول المطالبة بدمقرطة الدولة وتمكين الشعب من تحديد اختياراته عبر برلمان منتخب ديمقراطيا وحكومة تمثل إرادة الناخبين وكانت شظايا هذا الصراع تصل بعض الأحيان إلى قلب الدولة، اليوم هناك إجماع كبير حول الملكية ودورها في استقرار البلاد وتحصين الوطن ولم تبق إلا بعض التيارات السياسية تساؤل بعض جوانب النظام السياسي كما هو الشأن بالنسبة للتنظيم الإسلامي القوي “العدل والإحسان” والحركة اليسارية “النهج الديمقراطي”…
هذا التحول الاستراتيجي يطرح أسئلة عميقة حول نوعية الصراع السياسي الحالي والذي يتجسد حسب قراءتي حول من يستطيع التقرب أكثر من دوائر القرار وترجيح أفكاره ومواقفه داخلها… لقد أصبح للصراع المجتمعي صدى مهم داخل أهم دوائر القرار الاستراتيجي للدولة تفعل فيه وتتفاعل معه…
بمعنى آخر، الجميع متفق على دور الحكم المخول للملكية في القضايا الكبرى والمصيرية للوطن والشعب لترجيح هذا الاختيار أو ذلك وعلى أنه لا مناص من التوفر على ثقتها ودعمها لإنجاح كل إصلاح وهو ما يمكن فهمه من التصريحات العديدة لرئيس الحكومة كون الملك رئيسه وأن لا أحد سيدفعه إلى الصراع مع الملك… وكذا محاولات حزب الاستقلال مطالبة التحكيم الملكي في صراعه مع حزب العدالة والتنمية…
أعتقد أن تحول الصراع السياسي من مواجهة الدولة إلى التقرب من دائرة صنع القرار والتأثير في قراراتها يحدده بالأساس ميزان القوى المجتمعي… فما هي القوى الإصلاحية التي يمكن لها أن تميل الكفة لصالحها كما وقع مع خطاب 9 مارس ودستور 2011 والانتخابات البرلمانية وتشكيل حكومة مطابقة للدستور واليوم استمرار مسلسل الإصلاح وتنزيل ديمقراطي للدستور؟… هذا سيكون محور مقال لاحق سيتناول الأحزاب والنقابات والمؤسسات وكذا الفئات المجتمعية القادرة على التأثير على صناع القرار حتى تميل كفة مطالبها لصالحها…