تستمر الحرب الروسية-الأوكرانية التي تقترب من سنة ونصف، ومعها تتعاظم التساؤلات حول متى ستنتهي؟ وما الجديد الذي حملته هذه الحرب على المستوى العسكري؟ ويبدو أنها حرب المسيرات «الدرون» بامتياز وبكل أصنافها.
لقد صرح الصيني لي هوي الذي عينته بكين وسيطا في هذه الحرب بأن كلا من روسيا وأوكرانيا غير مستعدين في الوقت الراهن للتوقيع على هدنة في أفق مفاوضات سلام جدية قائلا «على ضوء الوضع حاليا، سيكون من الصعب إجراء مفاوضات بين الطرفين للتوصل إلى نتائج مرضية». وهذه التصريحات التي أدلى بها خلال الأسبوع الجاري تعني استمرار الحرب لشهور أخرى. ويستخلص منها كذلك، أن كل طرف لديه أجندة عسكرية يعتقد أنه سيحققها خلال الشهور المقبلة من أجل الانتصار قبل توقيع السلام.
وعلاقة بالجانب الروسي، تعتقد القيادة السياسية والعسكرية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين بضرورة الاستمرار في الحرب للقضاء نهائيا على كل المظاهر العسكرية التي قد تهددها مستقبلا وهي: تدمير كل البنيات العسكرية حتى لا تنضم أوكرانيا مستقبلا إلى منظمة شمال الحلف الأطلسي، وهذا هو الهدف الرئيسي. ثم الهدف الآني هو تدمير كل الأسلحة التي تتوصل بها أوكرانيا من الغرب للاستمرار في الحرب، ولهذا تقوم القوات الروسية بضرب كل أماكن تخزين العتاد. ومن ضمن الأمثلة، كيف ضربت منصات الدفاع الجوي باتريوت الأمريكية التي توصلت بها أوكرانيا من ألمانيا الصنع قبل استعمالها. وتستعد لقصف طائرات إف 16 إذا توصلت بها من هولندا وبولندا. ويضاف إلى هذا، تأمين الدفاع المطلق للمناطق التي احتلتها روسيا وأصبحت جزءا من أراضيها وهي شرق أوكرانيا أو إقليم دونباس الواسع.
وفيما يخص الجانب الأوكراني، ترغب كييف في تحقيق انتصار ولو رمزيا باستعادة جزء من الأراضي التي سيطرت عليها موسكو خلال هذه الحرب. وفقدت أوكرانيا أكثر من مئة ألف كلم مربع، أي ما يقارب سدس مساحة البلاد. ويجري الحديث عن هجوم مضاد للقوات الأوكرانية تجاه الشرق. ويعتقد عدد من الخبراء أن هجمات أوكرانيا بالدرون داخل الأراضي الروسية هي بداية غير معلنة لهذا الهجوم المضاد الذي تلوح به منذ شهور.
من جانب آخر، كل حرب كبيرة مثل الحرب الحالية أو الحروب التي تخوضها الدول الكبرى وفي هذه الحالة روسيا، تكون مناسبة لتجريب أنواع جديدة من الأسلحة، بل وتكون هذه الأسلحة هي الحاسمة. ومع اندلاع كل حرب، تهرع دول العالم إلى اقتناء الأسلحة التي كانت الأكثر استعمالا وحسما للحروب.
وإذا كانت الحرب العالمية الأولى هي حرب الرشاشات والمدافع، فقد تميزت الحرب العالمية الثانية بالمساهمة القوية للدبابات في المواجهات العسكرية. وسجلت الحروب التالية مثل الحرب الكورية في الخمسينات والفيتنامية في الستينات وبداية السبعينات قوة سلاح الطيران، حيث أصبحت المقاتلات تلعب دورا حاسما. وتميزت حرب العراق سواء الأولى سنة 1991 والثانية سنة 2003 باستعمال صواريخ كروز بكثافة لتدمير البنيات التحتية سواء العسكرية أو المدنية لحسم المعارك لاحقا.
فقد تميزت الحرب الحالية بنوعين من الأسلحة، الأولى في متناول الجميع وهي الطائرات المسيرة «درون» ويقتصر السلاح الثاني الحاسم حتى الآن على ثلاث دول فقط وهي روسيا والصين والولايات المتحدة، مع تفوق للإثنين الأوليين ويتعلق الأمر بالصواريخ فرط صوتية. لقد سمحت الصواريخ المتطورة مثل كاليبر وفرط صوتية مثل كينجال للجيش الروسي خوض الحرب عن بعد. وهذه الصواريخ هي الخطر الأكبر ليس على أوكرانيا بل على الغرب برمته، لأن الحرب الحالية هي مقدمة لأي حرب قد تندلع بين الغرب وروسيا.
ويبقى الجديد في الحرب الحالية وهو استعمال الطائرات المسيرة. فقد جرى استعمال الدرون في عدد من الحروب السابقة أو في شن هجمات خاصة في استهداف زعماء المنظمات المتطرفة في العراق وسوريا واليمن، وفي حرب أرمينيا وأذربيجان وكذلك في المناوشات بين المغرب وجبهة البوليساريو في منطقة الصحراء الغربية، غير أن الحرب الروسية-الأوكرانية هي المنعطف الحقيقي. وستعرف هذه الحرب في التاريخ العسكري بحرب الطائرات المسيرة رغم استعمال أسلحة أخرى بكثافة.
في هذا الصدد، تستعمل روسيا بكثافة الطائرات المسيرة لشن هجمات شبه يومية ضد أهداف في أوكرانيا. وتعتمد على طائرات من صنع إيراني من نوع «الشاهد». ومن جانبها، تستعمل أوكرانيا طائرات مسيرة وهي من صنع تركي في البدء «بيرقدار» ثم لاحقا من صنع أوكراني لضرب أهداف في الأراضي الروسية. وتؤكد هذه الحرب سهولة الحصول على الطائرات المسيرة، إذ يمكن لعدد من الدول تصنيعها، وإن كان بدرجات متفاوتة في قوتها النارية، أي بين ضرب أهداف صغيرة وأهداف كبيرة للغاية.
ولعل هذه الحرب، ستبقى في التاريخ العسكري باعتبارها الحرب التي شهدت استعمال دول أوروبية وروسيا أسلحة من دول كانت توصف حتى الأمس القريب بالعالم الثالث، ويتعلق الأمر بالدرون الإيراني والتركي. ويكفي أن عددا من الدول الكبرى مثل الصين تفكر في شراء درونات إيرانية، ولا تستبعد ألمانيا شراء درونات تركية. وقد اقتنت بولندا وهي دولة عضو في الحلف الأطلسي الدرون التركي بيرقدار. في الوقت ذاته، تبرز هذه الحرب كيف يطرح استعمال الدرون تحديات كبرى على الجيوش ومنها جيوش الدول الكبيرة مثل روسيا والولايات المتحدة. ومن أبرز التحديات:
في المقام الأول، تفشل أنظمة الدفاع الجوي المتطورة من اعتراض الطائرات المسيرة الصغيرة، إذ أن هذه الأنظمة صممت لاعتراض الطائرات والصواريخ الكبيرة. ولهذا وصلت طائرات مسيرة إلى التحليق فوق الكرملين، وضربت منشآت النفط شرق السعودية رغم التحصين القوي.
في المقام الثاني، لا يمكن استعمال أنظمة مثل باتريوت أو إس 400 التي يبلغ سعرها ما بين 500 ألف دولار ومليون دولار للصاروخ الاعتراضي من أجل اعتراض طائرة مسيرة يبلغ سعرها بعض عشرات الآلاف من الدولات مثل حالة الدرون الإيراني.
وهكذا، فهذه الحرب تحدث تغييرا جديدا على المستوى العسكري وعنوانه البارز هو «الدرون». ولهذا، ستتجه مختلف الدول إلى اقتناء الدرون وكذلك العمل على إنتاجه لأنه لا يتطلب الكثير من الاستثمار والخبراء عكس ما يجري مع تصنيع المقاتلات. ولهذا، سيتحول الدرون إلى سلاح الدول الفقيرة والضعيفة التي سيمنحها قوة ردع لم تكن منتظرة.