في كتابه بعنوان «فن الشعر» يقول أرسطو إن الشعر يقع في ثلاثة أنواع: الدرامي، الغنائي، والملحمي. ويمثل لذلك بأعمال سابقيه من الشعراء مثل الإلياذة والأوديسّة من أعمال هوميروس. كما يشير إلى أن الملحمة قد تكون أسطورية، يكون الأبطال فيها آلهة؛ كما قد تكون بشرية، يكون الأبطال فيها من البشر، من ذوي القدرات الخارقة والبطولات العجيبة.
والملحمة فن شعري قصصي عرفه قدماء الإغريق في شكل قصائد قصصية كُتبت بالأوزان السداسية أو ما يعادلها مؤكِّدة على بطل مثل أخيليس في الإلياذة، أو على حضارة بعينها مثل الروميّة أو المسيحية. يقول إزرا باوند في كتابه «ألف باء القراءة»: «الملحمة قصيدة تشتمل على تاريخ» وفي عام 98 للميلاد ذكر المؤرخ الرومي تاسيتوس في كتابه بعنوان «جيرمانيا» أن القبائل الجرمانية كانت تحتفل بمؤسسي جنسهم في أغانٍ قديمة وهي النوع الوحيد من الذاكرة الشعبية أو التاريخ الذي في متناولهم. ونجد صورة لذلك في مقطع في الإلياذة 8 عندما يقوم المغني الشهير ديمودوكوس بالغناء بناء على طلب أوديسيوس فأنشد حكاية حصان طروادة:
وسرعان ما أقبل رسولٌ ومعه المُغنّي الشهير
الذي اصطَفَته ربّةُ الشعر وأعطته خيراً مقابل شَر
فقد حرمَته من عينيه لكنها أعطته موهبة الغناء الجميل.
وضع بونتونوس كرسياً فضّيا بين المحتفلين
قريباً من العمود الضخم، وهناك
علّق على حمّالةٍ المعَزفَ المِرنان
تماماً فوق رأسه لكي تصِلَه يدُه
إلى حيث كان. ( 8— 62-9)
المغنّي كفيف، وقد يرمز العمى إلى الاستخدام الشعري للخيال والذاكرة لما لهما من أهمية للشاعر الشفوي، أو قد تكون إنعكاساً لوضع اجتماعي، مفاده أن الكفيف في موضع أفضل عند مواجهة صعوبة التأليف الإرتجالي. وهنا يبدو أن هوميروس يصرّ على نظرية في الإلهام الشعري.
وفي ملحمة «بيوولف» في اللغة الانكليزية القديمة ثمة إدراك مشابه للمنظور التاريخي في كلام ملك الدانمارك الذي يقدّم هدايا إلى البطل فيقول: «ما أكثر ما قدّمتُ من هدايا إلى الأقل أو الأدنى من الرجال… أما أنت بأعمالك فقد ضمنتَ لنفسك شهرةً لا نهاية لها».
يشير هوراس أن القصيدة الملحمية تؤكد على الرجال الخارقين.
موضوع الإلياذة غضب رجل واحد : أخيليس، وأرضيتها سقوط طروادة، وسياقها الحرب. وموضوع ملحمة «بيوولف» حكم رجل واحد هو الملك الطيب بيوولف وأرضيتها نهاية حضارة وسياقها بطولي.
وفي العصور اللاحقة نجد أمثلة من الملحمة في عدد من اللغات والثقافات، ربما كان أقدمها ملحمة غلغامش السومرية التي يوجد نُسَخ منها مكتوبة باللغة السومرية بالخط المسماري، تتحدث عن البطل غلغامش وصاحبه إنكيدو، وكلاهما من ذوي القدرات الجسدية الفائقة كما يصوِّر لنا مشهد مصارعة الوحش خمبابا حارس غابة الأرز السحرية والقضاء عليه نهائيا.
وفي العصور اللاحقة نجد ملحمة باللغة الانكَليزية القديمة تعود كتابتها إلى حدود عام 740م لكن حوادثها تعود إلى القرن السادس أي قبل تدوين تلك الملحمة بحوالي200 سنة، حكماً على الأحداث والحروب والملوك الذين تتحدث عنهم الملحمة. وتدور أحداث الملحمة في بلاد «الكَيت» بين الدانمارك وجنوب السويد، وتقع في 3200 بيت من الشعر يكون البيت فيها منقسما إلى شطر وعجز مثل الشعر العربي التراثي ولكن دون قافية، ولو أن فيه نوعاً من الوزن هو الحرف الأول من الكلمة الذي يتكرر صوته في الكلمات اللاحقة من الشطر أو البيت، وهو ما دعاه الباحثون باسم
«القافية الرأسية». وهذا ما يوفِّر نوعا من الغُنّة عند الترنّم في إنشاد الملحمة في الاجتماعات في قصور الملوك في تلك الأيام.
تدور أحداث ملحمة «بيوولف» عن الوحش كَريندل الذي كان يخرج من أعماق البحر كل ليلة ويهاجم قصر الملك هروثكَار ويختطف خمسة عشر من رجاله ويذهب بهم إلى أعماق البحر حيث يفترسهم. ولم يستطع رجال الملك الأشدّاء مواجهة ذلك الوحش الخطير. فسمع البطل بيوولف بما أصاب مملكة هيجيلاك فصمم أن يذهب للمساعدة. وفي أول مقابلة بين بيوولف والوحش استطاع بيوولف من دون أي سلاح أن يتغلب على الوحش ويخلع ذراعه الأيمن فهرب الوحش وغار في أعماق البحر. وفي الليلة الثانية جاءت أم كَرندل للانتقام من قاتل ابنها فقابلها بيوولف بسيفه لكن أم الوحش نفخت النار التي ذوّبت سيف بيوولف الذي لم يتوقف عن مقابلتها بالأيدي دون سلاح، فغلبها وانسحبت إلى أعماق البحر.
وهكذا استطاع البطل بيوولف من القضاء على الوحش وأمّه وقامت الاحتفالات في المملكة تكريما للبطل المنتصر، وبقيت هذه الملحمة تتردد إنشادًا في أنحاء المملكة.
يتضح من هذين المثالين أن شعر الملحمة ينشأ عند الشعوب في بداية تكوينها ويتّسم بالمبالغة في إظهار القوة عند رجال تلك الشعوب، كما نجد في صورة الأبطال في الدرامة الإغريقية، وكما نجد في صورة غلغامش وبيوولف. والملحمة من فن الشعر الشفوي، فهي تبدأ مع المنشد أمام جمع من الناس ثم يصار إلى تسجيلها.
وفي تراثنا العربي لدينا ما يشبه شعر الملاحم سيرة بني هلال، وسيف بن ذي يزن وعنترة. تتحدث سيرة بني هلال عن خروج القبيلة من نجد واليمن والتوجه غربا إلى تونس والمغرب وبطلها أبو زيد الهلالي الذي قاد قومه إلى الغرب من الجزيرة العربية. وقد بدأت هجرة بني هلال في منتصف القرن الخامس الهجري أي في حدود سنة 1150م. وتتحدث الملحمة عن بطولات أبي زيد الهلالي وتستمر إلى حدود مليون بيت من الشعر. وقد بقيت هذه الملحمة حديث الأسمار والتجمّعات في المقاهي وخصوصاً في المدن والبلدات المصرية. كما ظهرت في بعض البلاد العربية بشيء من التحريف في اللهجات، لكن مادة الملحمة وتطوّرها بقيت على حالها. وأذكر أنّي في أيام الدراسة العليا في أمريكا قد استمعتُ إلى رجل لبناني طاعن في السن، كان من المهاجرين اللبنانيين بعد الحرب العالمية الأولى، يروي لي بعض المقاطع من السيرة الهلالية بلهجة لبنانية جبلية:
لمّن يبرز لمْهَلهَل لقبال جسّاس / بيحقّلّو يتهَلهَل قدّام هجروس
زند اليمامي شهَّل خيّا عابس / تضرب بالتفّاح العال تضرب وتْطِسْ
وقد عرفت الملحمة شعوبٌ أخرى مثل الهنود الذين أبدعوا ملحمة مثل «مهابهاراتا» و«را مايانا» مسجلة باللغة السنسكريتية، وتقوم الأولى على 74000 سطر شعري مع مادة نثرية من مليون و800 ألف كلمة تتحدث عن تاريخ الهند وفلسفتهم.
لكن اللغه العربية لم تعرف الملحمة بمعناها الدقيق، لأن الشعر العربي يميل إلى الاختصار والتركيز، والبطولات فيه فردية تُعلي من شأن القبيلة. وبيت الشعر المثالي عند العرب ينتهي معناه بنهاية البيت. وهذا لا يناسب الشعر الملحمي. ثم إن الشعر الملحمي يتحدث عن تعدد الآلهة وخوارق الأعمال عند بعض البشر، وهذا ما لا تتقبله الطبيعة العربية حتى قبل الإسلام. بلى، كان لدى العرب قبل الإسلام آلهةٌ صنعوا لها تماثيل من الطين والحجارة، ولكن ليس بينها ما يشبه الآلهة الإغريقية من حيث الشكل والاحترام. ويروى أن بني حنيفة قد صنعوا لهم تمثال إلهٍ من التمر، فلما جاعوا أكلوه، فقال فيهم الشاعر:
أكلَتْ حنيفةُ ربّها / يوم التقَحُّمِ والمجاعة