خلال الأسبوع الجاري، ستكون قد مرت مئة يوم على اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وهي الحرب التي بدأت تشكل عالما جيوسياسيا جديدا، من عناوينه البارزة فقدان الغرب للمبادرة السياسية والعسكرية للحسم في القضايا المطروحة في الساحة الدولية.
وتشكل الحرب مفاجأة للبعض في حين ترقب حدوثها آخرون. واعتمادا على معطيات الواقع، فقد تراكمت عناصر متعددة قبل 24 فبراير/شباط 2022، تاريخ بدء الهجوم، تدل على حتمية الحرب ولو على حساب القانون الدولي. ويمكن اختزال المعطيات في ثلاث نقاط وهي: أولا، التحذير القوي والمتكرر الذي وجهته روسيا إلى الغرب بالامتناع عن توسيع الحلف الأطلسي نحو حدودها، ثم عدم تردد موسكو في الهجوم على جورجيا وضم القرم والتورط في الحرب الروسية للدفاع عن مصالحها الخارجية، وأخيرا، المناورات العسكرية الروسية المتتالية منذ خمس سنوات لغزو أوكرانيا، بل دول أوروبا الشرقية مثل بولونيا إذا تطلب الأمر ذلك.
ووفق تاريخ الحروب أو الفكر العسكري، الجميع يعرف كيف تبدأ الحرب لكن لا أحد ينتظر الصيغة الحقيقية والدقيقة التي تنتهي بها، رغم أن العنوان النهائي لهذه الحرب هو الانتصار العسكري الروسي على أوكرانيا، ليس من دون تكلفة كبيرة، لكن التفاصيل والانعكاسات القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى، تحتاج إلى قراءة متأنية. والمعطيات المتوفرة بعد مئة يوم من الحرب تكشف عن مؤشرات توجيهية من أجل مقاربة واقعية لفهم هذه الانعكاسات المستقبلية. في هذا الصدد، تؤكد روسيا عدم التراجع أمام المخاطر التي تهدد أمنها القومي منها توسع الحلف الأطلسي، وهي عقيدة أسس لها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفقة القيادة العسكرية والاستخباراتية والخارجية، وهي عقيدة ستستمر لعقود طويلة على شاكلة ما جرى إبان الاتحاد السوفييتي. وعليه، فهي عقيدة ليست لصيقة ببوتين كما تذهب بعض التحاليل، بل بتوجه للدولة سيسود طويلا لأن جل القيادات العسكرية – الاستخباراتية والدبلوماسية ينتمون إلى الجناح القومي الراديكالي القادم من الجيش السوفييتي وجهاز «كي جي بي». وارتباطا بهذا، لن تتردد موسكو في الهجوم على أي دولة غربية محاذية تتحول إلى مصدر خطر.
في الوقت ذاته، تبرز هذه الحرب مدى أهمية ارتكاز الأمن القومي على المواد الأولية، مثل ضمان الأمن الغذائي والطاقة ثم الصناعة العسكرية المتطورة، وهي العناصر الثلاثة التي سمحت لروسيا بهامش كبير في اتخاذ قرار الحرب بعيدا عن التصورات السطحية للذين يجعلون من تراجع أسهم البورصة أو العملة في ظرف وجيز مؤشرا على استخلاص النتائج. ونتساءل هنا: هل الأساسي هو تراجع العملة وتراجع أسهم شركة معينة في البورصة؟ أم فقدان مصادر الأمن القومي مثل الزراعة والطاقة والعتاد الحربي؟ لقد جاءت هذه الحرب لتعيد لركائز الأمن القومي الوطني هيبته الحقيقية بعيدا عن «شطحات تفاسير الماركتينغ السياسي والإعلامي الرخيص». بينما كان محللون يتحدثون عن انسحاب شركات مثل ماكدونالد من روسيا وكأنها ضامنة الأمن الغذائي، وتراجع بورصة موسكو في حين كانت أسعار الغاز تتضاعف بسرعة والعملة الروسية الروبل تتسيد وتصبح عملة دولية، بل إذا أقدمت روسيا على قطع الغاز عن أوروبا سينهار اقتصادها بالثلث وبورصاتها قد تشهد الخميس الأسود 1929، وهذا يعني تراجعا في الإنتاج القومي الخام بـ 25% على الأقل. عملت هذه الحرب على الرفع من التعاون بين روسيا والصين في المجال الاقتصادي، وأساسا في المجال العسكري، ولعل المثال الذي توج هذا التعاون وأقلق الغرب برمته هو تسيير وزارتي الدفاع في بكين وموسكو لدوريات حربية جوية بست طائرات مقنبلة، وليست طائرات مقاتلة عادية فوق بحر اليابان، إبان وجود الرئيس الأمريكي في اليابان الاثنين من الأسبوع الماضي. وهي رسالة رمزية واضحة بشأن المصير العسكري والسياسي والاقتصادي المشترك بين البلدين في الظروف الحالية. لقد أصبح الغرب الآن ككتلة يواجه كتلة أخرى وهي الصين – روسيا، في حين ذهب كثير من المحللين في الغرب إلى الحديث عن تحفظ بكين على الحرب الحالية، والآن يحدث العكس وكأن روسيا نسقت كل شيء مع حليفها الجديد قبل إعلان الحرب على أوكرانيا.
ومن جهة أخرى، كشفت هذه الحرب مستقبل المواجهات العسكرية المقبلة، وإذا تركنا جانبا سياسة التغليط لبعض الأطراف الغربية حول فرضية فشل الجيش الروسي في أوكرانيا، فهذا الأخير لم يعلن نهائيا عن غزو واحتلال أوكرانيا، بل وضع هدفا رئيسيا وهو تمكين إقليم الدونباس بجمهوريتيه لوغانسيك ودونيتسك من الانفصال عن المركز في كييف، ثم تدمير البنية العسكرية الأوكرانية. وحققت القوات الروسية هذه الأهداف بشكل كبير، فقد تقلصت مساحة أوكرانيا، وها هو عميد الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر ينصح خلال مؤتمر دافوس، بمنح الكرملين أراضي أوكرانية ووقف توسع الحلف الأطلسي. وفي الوقت ذاته، كانت أوكرانيا تحتل المرتبة 22 عسكريا في العالم وبصناعة حربية واعدة ومتينة، والآن فقدت معظم بنياتها العسكرية ومن دون شك أصبحت ما بعد السبعين في التصنيف العالمي عسكريا. لقد أكدت هذه الحرب أهمية المواجهة عن بعد من خلال الطيران المتقدم وأساسا الصواريخ الحديثة الدقيقة الفرط صوتية، حيث جرى استعمالها لأول مرة، وكانت حاسمة في تدمير البنية العسكرية الأوكرانية.
حاولت الدول الغربية جعل باقي العالم يصطف إلى جانبها في العقوبات ضد روسيا، لكن لأول مرة ومنذ انتظام ما يسمى بالمنتظم الدولي، تأخذ معظم دول العالم مسافة من الإجراءات الغربية، خاصة العقوبات نحو استقلالية القرار. وهذا المعطى يعد تطورا مهما في مستقبل العلاقات الدولية.
لقد وضعت هذه الحرب الغرب أمام امتحان قاس وصعب، فهو الآن يواجه التكتل الروسي – الصيني، ويرتهن إلى المواد الأولية الروسية من أسمدة وطاقة، بل كذلك بعض المعدات الميكانيكية، ويقف عاجزا عن اللحاق بركب التطور العسكري في مجال الصواريخ فرط صوتية، التي تنوب عن المقاتلات في حسم الحروب حاليا. يحتاج الغرب إلى تنظيم صفوفه وإيجاد عقيدة جديدة لتقوية النسيج الذي يجمع بين أعضائه بعدما اعتمد في الماضي على المواجهة الأيديولوجية ضد الاتحاد السوفييتي والآن يواجه ثنائيا مختلفا روسيا – الصين.