دخلت العلاقات المغربية – الجزائرية نفقا من التوتر والقلق غير مسبوق، لاسيما بعد الإجراءات التي اتخذتها الجزائر، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق المجال الجوي في وجه الطائرات المغربية، والتهديد بالتصعيد. كل هذه المعطيات تجعل فرضية الحرب، وإن كانت ضعيفة، واردة، ولعل الأخطر هو عدم قلق المنتظم الدولي وأساسا أوروبا من وقوعها.
وعلاوة على تراكمات التاريخ مثل حرب الرمال سنة 1963، التي تركت جرحا عميقا في العلاقات بين المغرب والجزائر، ومناوشات لاحقة، بدأ النزاع بين البلدين في الوقت الراهن يتهيكل فكريا وسياسيا، وفق تصورات جديدة تعد خطيرة إذا استمرت في الانتعاش والانتشار، نظرا للطابع البنيوي الذي تكتسبه وهو ما سيجعل تجاوزها مستقبلا عملا صعبا. وعادة ما يلجأ المحللون الغربيون، وعلى رأسهم الفرنسيون والإسبان في تعاطيهم للتوتر في العلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر، إلى تبني تأويل سهل إن لم نقل سطحيا، يفسرون العداء بين البلدين بنظرية تصدير المشاكل الداخلية. وهذه النظرية ترتكز على قيام الجزائر بالرفع من التوتر مع المغرب للتغطية على المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية، التي تهدد السلطة الحاكمة، والعكس صحيح بالنسبة للمغرب تجاه تصدير مشاكله للجار الشرقي.
منطقيا، لا يمكن تفسير عداء يمتد عقودا في الماضي، وهو مرشح لسنوات مستقبلا، اقتصارا على هذه النظرية فقط، لاسيما وأن لحظات معينة لم يكن البلدان يعانيان مشاكل داخلية كبيرة، واستمر هذا العداء. لهذه النظرية وزن محدود، وعليه، يجب البحث عن تفسيرات أخرى واقعية، مرتبطة بتطور الأحداث وتشكل العقيدة الجيوسياسية عند هذا الطرف أو ذاك، وهي التي تقوم على ثنائية “التشكيك المتبادل بالتآمر”. في هذا الصدد، يعتقد المغاربة في استمرار إيمان الجزائر بعقيدة ضرورة إضعاف المغرب لتحقيق الزعامة الإقليمية في شمال وغرب القارة الافريقية. وتترجم الجزائر أجندتها من خلال فرض سباق تسلح عنيف خلال السنوات الأخيرة، مستغلة فائض عائدات النفط والغاز، وأن كل محاولة للمغرب للحاق عسكريا بالجزائر سيكون على حساب الرفاهية الاجتماعية للشعب المغربي، أي تراجع الخدمات الطبية والتعليم والشغل والمساعدات الاجتماعية، وتعتقد الجزائر أن هذا سيضعف نسيج اللحمة الوطنية. وتعتقد الرباط في استغلال الجزائر نزاع الصحراء لحرمان المغرب من هذه المنطقة التي تعتبر فضاء حيويا جيوسياسيا لمستقبل المغرب، ليس فقط عبر دعم جبهة البوليساريو متذرعة بأنها قضية أممية، بل تطور الأمر إلى قرار الجزائر تعيين مبعوث خاص لها في النزاع وهو الدبلوماسي عمار بلاني. ويعتبر المغرب أطروحة الجزائر باحترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، وتصفية الملفات المرتبطة به مثل الصحراء هو ذريعة استعمارية لضرب وحدته الترابية ـ التاريخية، التي عانت من الاستعمار الأوروبي، ووجه آخر من الاستعمار الأوروبي. وأصبحت الجزائر في المخيال الشعبي المغربي، ولدى صناع القرار “الدولة التي تعرقل أي تنمية للبلاد عبر فرض سباق التسلح، والدولة التي ترغب في الحد من نفوذ المغرب إقليميا، خاصة في افريقيا”. وعليه أصبح الاعتقاد في المغرب بأن مواجهة هذه الدولة الجارة للحيلولة دون تطبيق أجندتها أمرا مشروعا وبكل الوسائل الممكنة.
وعلاقة برؤية الجزائر، تؤمن الطبقة السياسية – العسكرية في الجزائر بنظرية “المؤامرة”، أي تعرض البلاد لمؤامرة دولية بهدف ضرب وحدتها، وتعتقد في لعب المغرب دورا رئيسيا في هذا المخطط، سواء للانتقام من الدور الجزائري في الصحراء، أو فقط لإضعاف الجزائر لينفرد المغرب بزعامة شمال وغرب افريقيا. وتعتقد دول كبرى مثل روسيا في وجود مؤامرة ضد الجزائر لتفكيكها، لاسيما بعد الربيع العربي، وما حدث لليبيا وسوريا، وهذا يفسر قرار الكرملين تسليح الجزائر بأسلحة نوعية مثل منظومة إس 400 وصواريخ إكسندر. وتجد الجزائر مبررات تجاه جارها الغربي، مثل فرضية تجسس المغرب عليها بالتنسيق مع إسرائيل بواسطة برنامج بيغاسوس، ثم نوعية المناورات العسكرية الأخيرة للغرب في المغرب، وآخرها التي جرت منتصف يونيو الماضي، وحاكت سيناريو ضرب بطاريات إس 400 الجزائرية، ثم فرضية قيام خبراء عسكريين إسرائيليين بمراقبة الجزائر في الحدود المشتركة. علاوة على الاعتقاد بوجود مؤامرة لتقسيم البلاد، من خلال تبني المغرب لمطالب منطقة القبائل، ونقلها إلى المنتظم الدولي، كما فعل السفير عمر هلال. الاعتقاد الراسخ للجزائر في نظرية المؤامرة، هو الذي يدفعها الى تبني إجراءات غير مسبوقة مثل قطع العلاقات الدبلوماسية خلال الشهر الماضي وإغلاق المجال الجوي الجزائري في وجه الطائرات المغربية الأسبوع الماضي، والرفع من جاهزية القوات العسكرية على الحدود بشكل غير مسبوق خلال الثلاثين سنة الأخيرة والتهديد بتصعيد أكبر.
لقد شهد التوتر بين البلدين خلال السنة الأخيرة قفزة نوعية خطيرة على مستوى “عقيدة العداء المتبادل”. ويبقى التساؤل: هل الحرب واردة بينهما؟ قراءة التاريخ تجعل فرضية الحرب واردة، وإن كانت ضعيفة. فلا أحد كان يعتقد في وقوع حروب البلقان بجرائمها البشعة في قلب أوروبا إبان التسعينيات، ولا أحد كان يتخيل الحرب اليمنية أو الليبية أو السورية. وإذا عدنا الى التاريخ واطلعنا على كتابات المحللين بعد الحرب العالمية الأولى، كان الجميع يعتقد في استحالة وقوع حرب عالمية ثانية أخرى، بل دخول العالم مرحلة من السلم، ووقعت الحرب العالمية الثانية. وإقليميا، حتى الأمس القريب لا أحد كان يعتقد في عودة جبهة البوليساريو إلى الحرب، لكنها عادت وإن كان الأمر مجرد مناوشات عسكرية منخفضة، وقابلة للتطور في سياق التوتر الاقليمي. إن الأوضاع بين المغرب والجزائر تقارب نسبيا تلك التي سادت بين ألمانيا وفرنسا ما بين 1870 إلى انفجار الحرب العالمية الأولى، حيث أصبح العداء بين الطرفين مهيكلا فكريا وسياسيا وعسكريا وأدى إلى المواجهة الحربية التاريخية بينهما. لقد أصبح العداء العميق بين المغرب والجزائر مهيكلاً على جميع الأصعدة، ويتفاقم في ظل الحشود العسكرية على الحدود المشتركة، والغموض الذي يلف اتفاقية ترسيم الحدود، وبالتالي أصبح مرشحا للانفجار، أي وقوع الحرب إذا انفلتت الأمور من السيطرة الدبلوماسية. والأسوأ أن كل واحد منهما يعتقد أنه قادر على تحقيق الانتصار في الحرب إذا اندلعت.
وبالموازاة مع ارتفاع ترمومتر التوتر بين المغرب والجزائر، لا يسعى المنتظم الدولي، وعلى رأسه الغرب للتهدئة. لم تصدر عن العواصم القريبة المهتمة باستقرار البحر المتوسط مثل، باريس وروما ومدريد، أي دعوة للحوار والوساطة. وكانت الدعوة اليتيمة بالتهدئة هي التي صدرت من الأمم المتحدة الأسبوع الماضي. تلك المقولة الرائجة بعدم سماح الغرب بوقوع الحرب على مشارف حدوده بين المغرب والجزائر هي نظرية ساذجة للغاية، وتنم عن جهل بدينامية التاريخ وتفكير الاستبشلمنت الغربي. الغرب، خاصة بعض الدول فيه، أصبح براغماتيا، إذ وقعت الحرب بين المغرب والجزائر فهذا سيعني نزوحا نسبيا لمواطني البلدين، والقارة العجوز قادرة على استيعابهم، كما استوعبت آخرين لاسيما وأن غالبية النازحين سيكون لهم أهل يستقبلونهم بحكم وجود جالية مغاربية كبرى. ثم ستشكل الحرب فرصة للشركات الغربية لربح صفقات الإعمار بسبب التخريب الناتج عنها، ولن تغير الحرب من معطيات المنطقة. يكاد يقول الغرب: لتقع الحرب بين المغرب والجزائر.