بين تعزيز التعاون مع الجزائر وليبيا والأزمة مع المغرب، ألمانيا تهدد نفوذ فرنسا في شمال أفريقيا

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل

تعتبر ألمانيا رفقة اليابان من القوى الاقتصادية الست الكبرى في العالم التي لم تتورط في النزاعات الدولية بشكل مباشر خلال العقود الأخيرة، ولم تلعب دورا كبيرا عكس باقي القوى مثل فرنسا أو بريطانيا علاوة على الولايات المتحدة وروسيا. وهذا يعود إلى أسباب تاريخية منها الهزيمة في الحرب العالمية الثانية وشروط الاستسلام التي أعقبتها. وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت الدبلوماسية الألمانية أكثر نشاطا في عدد من مناطق العالم ومنها في شمال أفريقيا، لكنها اصطدمت بخلافات المنطقة ومنها الأزمة التي نشبت بينها وبين المغرب.
وفي ظل التطورات التي يشهدها العالم والاستقطابات بسبب عالم متعدد الأقطاب آخذ في التبلور، قررت ألمانيا ومنذ سنوات نهج خريطة طريق خاصة بنشر نفوذها الدبلوماسي القائم على قوتها الاقتصادية بدل التقيد دائما بالولايات المتحدة أو باتحاد أوروبي ضحية انقسامات منذ أكثر من عقدين. ومن المناطق التي تراهن عليها ألمانيا سواء للرفع من التبادل التجاري والاستثمارات ثم النفوذ السياسي في منطقة شمال أفريقيا التي بقيت حكرا على النفوذ الفرنسي. وحققت خلال السنوات الأخيرة نجاحات كبرى عنوانها «مؤتمر برلين» الخاص بليبيا وإخفاقات شائكة وعنوانها الأزمة مع المغرب بسبب نزاع الصحراء.

برلين تعيد الاستقرار لليبيا

وعمليا، تعد ألمانيا ضمن الشركاء الرئيسيين اقتصاديا لمنطقة شمال أفريقيا وبدأت تزاحم جديا اسبانيا وفرنسا، وتحقق قفزة نوعية كشريك سياسي استراتيجي، ولعل المنعطف هو «مؤتمر برلين» الأول خلال بداية السنة الماضية والثاني خلال هذه السنة. ونجحت برلين في إرساء استقرار مقبول في هذا البلد المغاربي الذي مزقته الحرب بعد سقوط نظام معمر القذافي.
وكانت برلين المؤهلة الوحيدة بين الدول الأوروبية، فمن جهة إيطاليا لديها مصالح كبيرة في هذا البلد وتنحاز إلى جهة على حساب أخرى، ومن جهة أخرى لم يكن بإمكان فرنسا وبريطانيا لعب أي دور نظرا لأنهما سعتا إلى تقسيم ليبيا إلى بلدين بعد انهيار نظام القذافي. ونجاح برلين السياسي والأمني يترجم في أرض الواقع بمعطيات ملموسة أهمها التخفيف من الهجرة السرية نحو شواطئ أوروبا وبدء إخلاء ليبيا من المرتزقة الأجانب. ثم بدء بناء مؤسسات صلبة مثل البرلمان. ومن نتائج نجاح برلين في ليبيا هو إضعاف نفوذ فرنسا التي انحاز إلى المشير حفتر.
وتعد مساعدة ليبا نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي قضية دولة بالنسبة لألمانيا، لن يقتصر الأمر على حقبة المستشارة أنجيلا ميركل بل سيتعداه إلى المستشار المقبل.

الرهان على تونس ديمقراطية

ونجحت ألمانيا في تطوير العلاقات مع تونس من خلال دعم الديمقراطية الفتية في هذا البلد من خلال مساعدات اقتصادية هامة وتشجيع الاستثمار الألماني ثم الدفاع عن مصالحها في الاتحاد الأوروبي. وعكس فرنسا التي تلتزم الصمت أو تتحرك بشكل محتشم في تطورات الأوضاع في تونس في أعقاب حالة الاستثناء التي أعلنها الرئيس قيس سعيد، تصر ألمانيا على العودة إلى الحياة الديمقراطية. وشددت ميركل في تصريحات لها خلال مناسبات متعددة وآخرها هذا الأسبوع على العودة إلى الديمقراطية، بل واتصلت بالرئيس قيس يوم الأربعاء الماضي للتشديد على الخيار الديمقراطي.

ألمانيا تعتبر
الجزائر البرازيل الجديدة

ويبقى الرهان الكبير لبرلين في شمال أفريقيا هي الجزائر لسببين رئيسيين، الأول قوة السوق الجزائرية مستقبلا لأنها أكبر اقتصاد في المنطقة وبالتالي هذا سيسمح بفضاء هام للشركات الألمانية إلى مستوى التفكير في تحويل الجزائر إلى البرازيل الثانية التي احتلت مركزا رئيسيا في سياسة برلين. وثانيا، رغبة الجزائر التحرر من التأثير الفرنسي بالبحث عن شركاء آخرين وتجد في الصين وألمانيا البديل. ولعل نقطة قوة العلاقات التجارية بين البلدين أنها لا تقوم على الطاقة بل على التبادل في قطاعات أخرى والاستثمارات كذلك في قطاعات أخرى.
ولهذا تمر العلاقات بين الجزائر وألمانيا خلال السنوات الأخيرة من فترات زاهية سواء في تعزيز الاقتصاد أو التكامل السياسي في التعاطي مع ملفات مثل الملف الليبي ونزاع الصحراء.  ولعل عنوان هذه العلاقة الاستراتيجية هو التعاون في المجال العسكري سواء عبر تصنيع سيارات حربية ثقيلة من نوع بينز في الجزائر أو شراء هذه الأخيرة للسلاح الألماني على حساب فرنسا. وتعد الجزائر من الزبائن الرئيسيين للسلاح الألماني. والتعاون في المجال العسكري يعد منعطفا نحو علاقات استراتيجية.

سوء الفهم الكبير مع المغرب

لم تنجح ألمانيا طيلة مسيرة أنغيلا ميركل في تعزيز التعاون مع المغرب رغم أنه الشريك الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. ويكفي أن الملك محمد السادس لم يقم بأي زيارة إلى هذا البلد الأوروبي، كما أن الزيارة الوحيدة التي قامت بها ميركل إلى المغرب كانت في إطار احتضانه مؤتمرا دوليا ولم تلتقي بالملك.
العلاقات بين برلين والرباط بدأت تسجل أزمات صامتة منذ سنوات حتى انفجرت الصيف الماضي. وكانت البداية مع الغضب الذي أبدته برلين جراء منح المغرب القطار السريع لفرنسا دون مناقصة دولية وعملت على وضع شروط على المساعدات الأوروبية للمغرب. وانفجرت الأزمة الثانية بشكل علني عندما لم تستدع برلين الرباط لحضور مؤتمر برلين حول ليبيا خلال يناير 2020 وأصدر المغرب بيانا ناريا ضد هذا البلد الأوربي. ودخلت العلاقات منذ كانون الأول/ديسمبر 2020 النفق الدبلوماسي بعدما رفضت ألمانيا قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتأييد سيادة المغرب على الصحراء، وقامت بالتنسيق مع اسبانيا في مجلس الأمن لاستصدار قرار مضاد ثم منع الاتحاد الأوروبي من مسايرة القرار الأمريكي. وسجلت العلاقات حلقات أخرى متوترة بسبب التعاون الاستخباراتي في ملف محمد حاجب ثم عندما ارتابت الرباط في عرقلة ألمانيا التنمية في المغرب لحساب الجزائر. وعلاقة بهذا، أشار الملك محمد السادس في خطابه يوم 20 أغسطس/آب إلى دراسة المانية صادرة عن معهد تفكير استراتيجي يوصي بإضعاف المغرب. في الوقت ذاته، لم يرتاح المغرب لدور المبعوث الشخصي السابق للأمين العام للأمم المتحدة في نزاع الصحراء، الألماني هورست كوهلر الذي بدا متأثرا بالموقف الألماني «المنحاز» للجزائر. كل هذه المعطيات دفعت بالمغرب إلى سحب سفيرته من برلين بداية الصيف الماضي، ولم تعرف الأزمة بين البلدين بعد طريقها إلى الحل.
وعلاقة بموريتانيا، تعتبر العلاقات الألمانية-الموريتانية هادئة لا تسجل أي أزمات بل تحولت نواكشوط إلى وجهة هامة للمساعدات التي تقدمها برلين وخاصة في أزمة كورونا.
في غضون ذلك، لقد نجحت ألمانيا في حقبة ميركل في بدء إرساء نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي في شمال أفريقيا وأصبحت تهدد مصالح فرنسا بشكل جدي أكثر من أي دولة أخرى رفقة اسبانيا.

Sign In

Reset Your Password