لم يسبق أن شهدت دولة مصر وضعا صعبا في مسيرتها منذ عقود طويلة مثل ما هو عليه حالها في الوقت الراهن، فهي تمر بوضع داخلي صعب حيث العنف الوحشي هو عنوان المرحلة، بينما وضع البلاد في الخريطة جيوسياسية في الشرق الأوسط تراجع بشكل كبير بسبب بروز الدور التركي والإيراني، معه تكاد تصبح القاهرة كومبارس تأثيث المشهد في أجندة دول صغيرة مثل الإمارات العربية.
وتعاني مصر من تحديات كبرى تحيط بها من كل الحدود شمالا وجنوبا وغربا ونسبيا شرقا، ولم تعد مخاطبا يأخذ برأيه بشكل كبير من طرف العواصم الكبرى في قضايا المنطقة كدولة ذات وزن كبير، بل أضيفت إلى رزمانة الدول التي تستشار بشكل جماعي ويطلب منها رأي بشكل جماعي. وكل هذا يعود إلى فقدانها وزنها الاستراتيجي الذي تمتعت به في الماضي وتدهور منذ بداية العقد الماضي لاسيما مع وصول نظام السيسي إلى السلطة.
في هذا الصدد، تتجلى التحديات الكبرى التي تواجهها مصر في كيفية التعاطي مع ثلاث ملفات شائكة، وتبدو حظوظ النظام الحاكم ضعيفة للغاية في تحقيق نجاحات بل تسجل خسائر فادحة، وهذه الملفات هي:
أولا، كيفية التعامل في سد النهضة الذي شيدته إثيوبيا ودخل حيز العمل منذ صيف 2020 وهو السد الذي سيحرم مصر تدريجيا من منسوب كبير من المياه ابتداء من نهاية السنة الجارية، وستكون عواقبه كارثية على الشعب المصري مستقبلا. لقد جاء السيسي إلى السلطة عبر الدبابة بحجة الدفاع عن الأمن القومي لمصر، واقتنى أسلحة بميزانيات ضخمة من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، ورفع من جاهزية الجيش عبر مناورات مستمرة ومن عدد أفراده. واقتحمت المؤسسة العسكرية كل القطاعات بما فيها المقتصرة على المدنيين وأصبحت محتكرة للاقتصاد الوطني. لكن السيسي عجز عن الحل العسكري لسد النهضة رغم تلويحه بالحرب في مناسبات متعددة. وعمليا، بدل الاستثمار في اقتناء الأسلحة، كان الأجدر تخصيص جزء من الميزانية لتمويل مشاريع وطنية تحسبا لتأثير تراجع منسوب المياه على النشاط الاقتصادي. لقد انهزم نظام السيسي عسكريا ودبلوماسيا أمام إثيوبيا، وهي هزيمة تاريخية تعني شيئا واحدا وهو: فقدان مصر لنسبة كبيرة من مياه النيل منذ الأزمنة الغابرة.
ثانيا، تشكل ليبيا عمقا استراتيجيا لمصر، وفي أعقاب انهيار نظام معمر القذافي، عمل السيسي على الانخراط في الثورة المضادة التي تقودها الإمارات العربية المتحدة والسعودية من خلال محاولة تقويض أي انتقال ديمقراطي ناتج عن الربيع العربي-الأمازيغي. وانخرط بنوع من المقامرة في هذه الاستراتيجية رغم حساسية الملف الليبي لمصر، حيث كانت لرؤساء مصر السابقين سياسة مستقلة تجاه طرابلس تقوم على الأخذ بعين الاعتبار مصالح مصر دون الخضوع لأي مصلحة أجنبية أخرى. وفجأة من استقلالية القرار تجاه ليبيا إلى لعب دور الوكالة لصالح دول مثل الإمارات.
ثالثا، يتشكل شرق أوسط جديد خلال السنوات الأخيرة لاسيما بعد دخول دولتين ضمن دائرة الدول التي تتصارع على السيطرة على المنطقة أو على الأقل المشاركة في صنع أي قرار مستقبلي يهم المنطقة وهما تركيا وإيران، بينما لا تجد مصر مكانتها بعد وسط هذه التطورات. في هذا الصدد، يشهد الشرق الأوسط حضورا عسكريا لافتا لروسيا عبر البوابة السورية، وتعزز الصين من مصالحها الاقتصادية ومؤخرا في المجال العسكري في وقت بدأت الولايات المتحدة بالانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط بعدما لم تعد في حاجة إلى البترول العربي. وفي المقابل، تستمر إيران في فرض نفسها لاعبا سياسيا وعسكريا في المنطقة، ويكفي أن الإمارات بررت توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل بالبحث عن حماية أمنها من إيران، والأمر نفسه فعلته البحرين، علما أنه في الماضي كان ينظر إلى مصر كأحد حماة الخليج العربي والشرق الأوسط. وبدورها، حققت تركيا خلال العقد الأخير قفزة نوعية في التأثير في السياسة العربية، فقد تحولت إلى قوة رئيسية لحسم مستقبل ليبيا وأزاحت مصر عن هذا المركز، وبفضل التدخل التركي تستمر حكومة الوفاق المعترف بها من طرف الأمم المتحدة رغم مناورات الرباعي فرنسا-الإمارات-السعودية-مصر. كما فرضت نفسها بعد خروجها منتصرة في المواجهة مع فرنسا حول موارد الطاقة شرق البحر المتوسط. وكل تقدم لتركيا في الشرق الأوسط وخاصة البحر المتوسط هو تقزيم عملي وفعلي لدور مصر. وتبرز المقارنة كيف حققت تركيا قفزة نوعية في مجال مستوى العيش والدخل الفردي والبنيات التحتية والتقدم في صناعة عسكرية متينة، وكيف تراجع كل مؤشرات العيش الكريم في مصر.
في غضون ذلك، لم ولن ينجح نظام السيسي في تحقيق نتائج تذكر في الملفات الثلاثة بسبب ثلاثة أسباب رئيسية وهي:
في المقام الأول، الوضع الداخلي في هذا البلد أصبح برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت بعدما لم يعد المواطن المصري قادرا على مواجهة أعباء الحياة المعيشية، وها هي شرارة الاحتجاجات قد بدأت في عدد من مناطق البلاد. وبالتالي يخصص النظام الحاكم الكثير من طاقته للسيطرة على الوضع، فمن جهة هناك احتقان الشارع، ومن جهة أخرى استمرار الإرهاب بين الحين والآخر. ويدرك السيسي أن كل تغيير سيعني الاعتقال والمحاكمة كما حدث مع الرئيس السابق حسني مبارك.
في المقام الثاني، مثل الكثير من الدول الفاسدة والدكتاتورية، يخصص ويوظف نظام الجنرال السيسي طاقات الوطن في الخارج للدفاع عن صورة الحاكم وتبرير الخروقات التي يرتكبها وتصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، ويتم هذا على حساب المصالح الخاصة بالأمة المصرية. ويمكن إجراء دراسة للوقوف على مفارقة خطيرة، كيف استثمرت مؤسسات البلاد وصحافيين في تجميل صورة السيسي في الخارج عشرات المرات أكثر على استثمارها في الدفاع عن موقف مصر في مياه النيل بعد سد النهضة الإثيوبي.
في المقام الثالث، منذ مجيء السيسي أحجمت مصر على طرح مبادرات خاصة بمشاكل الشرق الأوسط ومنها ليبيا باستثناء في شكل محتشم. ويعود هذا إلى انخراطها في مبادرات دول أخرى مثل الإمارات العربية. وأصبحت هذه الدولة الصغيرة، أي الإمارات، تقدم على مبادرات تفوق مصر التي تحمل لقب “أم الدنيا”.
لقد بدأت مصر تفقد البوصلة الاستراتيجية بشكل تدريجي منذ منتصف التسعينات، تفاقمت منذ عشر سنوات وتصل الآن إلى مستوى الخطر الحقيقي بعدما فقد منسوب مياه النيل لأول مرة في التاريخ، لتصبح مصر مع نظام السيسي “رجل الشرق الأوسط المريض” على شاكلة الإمبراطورية العثمانية قبل سقوطها عندما لقبت بـ”رجل أوروبا المريض”.