بعدما بدأ وباء فيروس كورونا يتفاقم في دول أوروبا ومنها الجنوبية وإيطاليا وإسبانيا خلال شهر اذار/مارس الماضي، ارتفعت أصوات لديها غيرة على الاتحاد الأوروبي محذرة من أن سوء تسيير الأزمة سيكون زلزالا أكبر بكثير من خروج بريطانيا من الاتحاد وقد يكون بداية تفكيكه. ووعيا بالتحديات، كان الاتفاق التاريخي يوم الثلاثاء الماضي بشأن برنامج تنموي يكتسب صفة مخطط مارشال (مخطط أمريكي لبناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية) وهو أوسع وأشمل لكي يضمن الاتحاد تطوره ومقارعته مستقبلا لكل من الثلاث الكبار، الولايات المتحدة وأساسا الصين وروسيا.
وخلال القمة الأوروبية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي وانتهت بداية الحالي، انتهت الدول المكونة للاتحاد الأوروبي وعددها 27 إلى اتفاق تاريخي يربط ميزانية 2021-2027 بمخطط تنموي ميزانيته 750 مليار يورو لمساعدة الدول المتضررة من كورونا، حيث ستقوم المفوضية الأوروبية لأول مرة في تاريخها بالاستدانة باسم الاتحاد الأوروبي لتوزيع الأموال بين دعم مباشر وقروض ذات فوائد محدودة للغاية. ولخصت المفوضية هذا القرار المالي في “مهم للغاية وذو أهداف دقيقة ومحدودة زمنيا”.
وعلقت جريدة “لوموند” الفرنسية المعروفة بدفاعها عن الوحدة الأوروبية في افتتاحيتها الثلاثاء الماضي “التقدم الكبير في البناء الأوروبي جاء دائما نتيجة ظروف صعبة، والاتفاق التاريخي الذي جرى التوصل إليه يوم الثلاثاء يدخل في هذا الإطار. لقد نجح زعماء الحكومات في تجاوز مرحلة أساسية نحو أوروبا أكثر فدرالية ومتكاملة بإعطاء الضوء الأخضر لمخطط عملاق لإنعاش الاقتصاد لإصلاح الخسائر التي تسبب فيها كوفيد-19”.
ويبقى أهم شيء حققته هذه القمة هو بدء الأعمال بانقسام واضح بين دول شمال أوروبا وهي هولندا والدنمارك والسويد وفنلندا والنمسا التي تحفظت على المساعدات المباشرة مقابل دول الجنوب التي نادت بضرورة سيادة التضامن بحكم وجود الجميع في مركب واحد. وعمليا، انتهت بهذا الاتفاق التاريخي الذي من أصل 750 مليار يورو جرى تخصيص 390 مليار يورو لسد احتياجات الدول التي تضررت كثيرا من كوفيد-19.
العوامل المساعدة
وساعدت عوامل متعددة على خلق وعي حقيقي لدى قادة وشعوب الاتحاد الأوروبي، لاسيما بعدما بدأ الكثيرون يشددون على ضرورة تحلي الجميع بروح أشبه بتلك التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، أي الانتقال إلى بناء أوروبي لتجنب القارة العجوز الويلات مستقبلا. وبعد الحرب العالمية جاءت مبادرة السوق الأوروبية المشتركة التي بدأت بدول محدودة وبالتعاون في قطاعات محدودة للتحول بعد نصف قرن إلى الاتحاد الأوروبي وتصبح أنجح تجمع للدول في تاريخ الإنسانية. وعلى رأس هذه العوامل التي ساهمت في إنجاح القمة التاريخية:
في المقام الأول، رئاسة ألمانيا الدورية للاتحاد الأوروبي والتي بدأت مع بداية الشهر الجاري وستنتهي نهاية كانون الأول/ديسمبر المقبل. في هذا الصدد، نجحت برلين في إرساء تفاهم سياسي مع فرنسا يوم 18 أيار/مايو الماضي. ثم انتقلت إلى إقناع حلفائها في شمال أوروبا بضرورة التخلي عن التشدد الصارم في الميزانية المالية بسبب الظروف القاهرة التي فرضتها الجائحة. وجرى الاتفاق على أن “الاستثناء، أي التنازل، هذه المرة بسبب النتائج الوخيمة للفيروس لن يشكل قاعدة مستقبلا”. وعمليا، قبل انسحابها المرتقب، تكون أنجيلا ميركل قد قدمت أحسن هدية إلى الاتحاد الأوروبي بلعبها الدور البارز في إرساء هذا الاتفاق التاريخي. وسيحتفظ التاريخ الأوروبي للزعيمة الألمانية بنجاحها في توحيد القارة الأوروبية، وبهذا تكون قد بلغت مرتبة شبيهة بالآباء المؤسسين مثل كونراد أديناور وشارل ديغول.
في المقام الثاني، تزامنت الجائحة مع ارتفاع نسبة الأوروبيين الرافضين للاتحاد الأوروبي بسبب البيروقراطية التي تتحكم في قرارات المؤسسات الأوروبية، وبالتالي كان على المسؤولين إعادة ثقة الأوروبيين إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وإلا سيكون مصير الاتحاد مقلقا.
في المقام الثالث، وفي ارتباط بالنقطة السابقة، عانت شعوب جنوب أوروبا من أزمة 2008-2009 التي كادت أن تعصف باليونان وضربت اقتصاد دول أخرى مثل البرتغال وإسبانيا ونسبيا إيطاليا بشكل كبير، ولم يقدم الاتحاد الأوروبي وقتها الشيء الكثير للخروج من الأزمة. وعليه، ارتفعت أصوات في أوروبا الجنوبية تنادي بضرورة الخروج من اليورو والعودة إلى العملة الوطنية لمعالجة الأزمة الاقتصادية، أي عبر التحكم في صرف العملة بالتخفيض كما يجري في الكثير من الأزمات. وإذا حدث وخرجت دولة من اليورو سيكون بداية نهاية العملة الموحدة التي تعد من الأسس المتينة التي يقوم عليها الاتحاد.
في المقام الرابع، يدرك أنصار الوحدة الأوروبية وخاصة باريس وبرلين ومدريد أن كل فشل في التوصل إلى اتفاق تاريخي سيقوي من خطاب الحركات القومية المتطرفة التي تسمى “اليمين المتطرف” بالدعوة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي على شاكلة بريكسيت، أي خروج بريطانيا من حظيرة الاتحاد. وهذه كانت من النقط المقلقة للقادة الأوروبيين بعدما أظهرت التجربة التاريخية أن الأزمات قد تقود إلى سيادة خطاب التطرف والتفكك أو تقود إلى القفزة النوعية نحو التكامل والتعاون. ولهذا سادت روح التفاهم ووقع الاتفاق التاريخي.
في المقام الخامس، يعد عدم مشاركة بريطانيا في القمة بعد خروجها من أكبر عوامل النجاح، ولو كانت قد بقيت، لتنبت كما كتبت جريدة “الباييس” في افتتاحيتها الثلاثاء الماضي سياسة العرقلة التي ميزتها تاريخيا في تعاطيها مع القرارات الأوروبية.
الولادة الجديدة
علق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حوار مع القناة الفرنسية الأولى الثلاثاء الماضي على قمة مجلس أوروبا التي توصلت إلى الاتفاق التاريخي بأن “المخطط الاقتصادي لمواجهة فيروس كورونا هو اللحظة الأكثر أهمية بعد إقرار العملة الموحدة اليورو”. وصادقت الدول العضو في السوق الأوروبية المشتركة على العملة الموحدة في اتفاقية ماستريخت التاريخية سنة 1992 ضمن وضع أسس جديدة للتحول إلى الاتحاد الأوروبي. ومن جانبه، يصف شارل ميشيل رئيس مجلس أوروبا الاتفاق التاريخي بالتطور الكوبرنيكي، في إشارة إلى الثورة الثقافية التي أحدثها كوبرنيك عندما طرح مسألة كروية الأرض وعدم مركزيتها في الكون.
ويعد الاتفاق التاريخي يوم الثلاثاء الماضي منعطفا حقيقيا، فمن جهة، يمنح الثقة لأنصار الاتحاد الأوروبي بتعزيز الوحدة الأوروبية والسير نحو أوروبا الفدرالية، أي نحو تكامل أكبر. ومن جهة أخرى، تعزيز وضعية الاتحاد في الساحة العالمية في ظل تشكل خريطة جيوسياسية جديدة نتيجة الصراع الصيني-الأمريكي الآخذ في التبلور ولاسيما بعد وباء كورونا.
ويأتي الاتفاق في وقت يحتاج إليه الاتحاد الأوروبي إلى وحدة حقيقية نتيجة هذه الخريطة جيوسياسية الآخذة في التشكل. ويرغب الاتحاد في حجز مكانه بين الثلاثة الكبار الولايات المتحدة والصين وروسيا. فمن جهة، العلاقات مع الولايات المتحدة إبان فترة الرئيس دونالد ترامب متوترة ومست العلاقة الأطلسية التاريخية، ومن جهة أخرى استعادت روسيا قوتها السياسية والعسكرية، بينما بدأت الصين تفرض في المنتظم الدولي بما في ذلك على أوروبا أجندة جديدة لتطلعها إلى قيادة العالم مستقبلا.
فيروس كورونا الذي يعد وبالا على العالم يشكل فرصة للبعض، فقد خرجت الصين منتصرة والآن الاتحاد الأوروبي. وهكذا، يوم 21 تموز/يوليو يعتبر محطة جديدة وكبرى في مسيرة الاتحاد الأوروبي، فمن جهة نجح في تعزيز الروابط بين الدول والشعوب الأوروبية، ومن جهة أخرى، يعزز وحدته لحجز مكانة ضمن الخريطة جيوسياسية الجديدة.