لقد شكل الحديث عن المثقف مسرحا لمواقف توافق عليها فطاحل الفكر الإنساني ، منذ Karl Marx كارل ماركس ، في الأيديولوجيا الألمانية ، نحو Karl Mannheim كارل منهايم ، في اتجاه رواد مدرسة فرانكفورت التي جمعت فحول التحليل الملموس للظواهر السوسيولوجية ، من طينة أدورنو Theodor W. Adorno و هوركهايمر Max Horkheimer تحديدا ، في اتجاه Herbert Marcuse هربرت ماركوز ، الذي اعتبر المثقف عموما و الباحثين عن العلم من مداخل المنهج و الرؤيا خصيصا الطليعة التكتيكية للتنوير و التغيير نحو الحداثة .
و لأن المثقف كانت و ما يزال الواجهة الحقيقية لتشكل السلطة المضادة القادرة على ممارسة النقد العلمي للسياسات العمومية و للمؤسسات من حيث آليات اشتغالها وتقديم البدائل في باب تنزيل شروط المواطنة المنصفة .
فإن ميشل فوكو Michel Foucault اشترط في أبحاثه الموسومة بالأركيولوجيا المعرفية امتلاك القدرة على ممارسة النقد شرطا أساسا لتشكل طبقة من المثقفين القادرين على إخضاع القرارات العمومية لمحك النقد التمحيص .
و مع الرعيل المؤسس لفكر الحداثة على لبنات النقد المركب للثرات ؛ تشكلت نخبة من الأنتلجنسيا حاولت مقاربة سؤال تخلف البلدان المنتمية ايديولوجيا الى العالم العربي والإسلامي ؛ انطلقت حفريات معرفية مسنودة بخلفيات حضارية و بمنهج علمي صوب ايجاد اجوبة شافية لمعضلة التأخر التاريخي والمزمن.
و نجد تلك النخبة تتوزع منهحيا بين المنهج التاريخاني عند عبد الله العروي ، و المنهح الإبيستيمولوجي عند محمد عابد الجابري ، و المنهج التاريخي عند ناصف نصاف ، و المنهج التأويلي عند محمد ناصر حامد أبو زايد ، و المنهج التركيبي عند محمد اركون ، و المنهج الفينومولوجي عند حسن حنفي ، و مناهج توفيقية عند ادونيس .
و بالنسبة لي من خلال تتبع مسار الظاهرة المعرفية ألمس كون الخلفية الحضارية والأخلاقية كانت دائما تشكل خلفية المفكر الرصين الذي يرهن عمره في التفكير في قضايا الأمة ، محاولا حلحلة معيقات الحداثة في كنف بنيات سوسيولوحية جامدة وفق قوالب أدلجة التخلف .
و اذا كان زمن الزمرة من اولئك المثقفين متسما بالقلق التاريخي تحت دواعي الإنحطاط الذي يحاصر ” دار الإسلام ” ، فان زمننا هذا ، من أسف ، سقط ضحية لاستئساد الرداءة التي أنتجت نخبة متبرجزة فكريا تكتفي باقتناص فرص التسلق الطبقي بالتقرب من السلطة وخدمتها على أشلاء الفكرة المطلقة كمحرك لروح التاريخ كما وضح Friedrich Hege فريردرك هيغل .
و اذا كان غرامشي Antonio Gramsci قد بين بجلاء الفرق بين المثقف العضوي الذي ينتصر لقضايا الجماهير بوعي طبقي ينشد دعم الهوية السردية للكادحين في ظل وحدة الإنتماء الى ماهية الدولة ، و المثقف المنخور من الخلفية الأخلاقية، القيمية.
ويظهر لك هذا النوع من ” المثقف ” مجرد نسق من الشكلانيات التي تشرعن الغيبوبة الفكرية باسم المنطق التكنوقراطي المعادي لروح التاريخ في مضمار مباديء العقل الأخلاقي العملي .
و قد تم فتح المجال على مصراعيه امام جيل من اشباه المثقفين يسيؤون اولا للعقل الجمعي ، و ثانيا يوطدون عرى الجهل المقدس من خلال الرهان على شهادات برانية منخورة من اي مغزى حضاري وقيمي اضافي.
و لقد كان الباحث Olivier Roy ” أولفيي روا ” دقيقا في معرض حديثه عن الجهل الذي تزكيه مؤسسات العلم الرسمي ، و الأنكى عندما يتوطد عمق الجهل بنخب شكلانية تكتفي بإنتاج الإستهلاك و بعث الروح في جسد فكري حبيس المظاهر البراقة ، رغم انه ” ليس كل ما يلمع ذهبا ” .
و حسبي ان محمد اركون كان نبيها عندما تحدث عن الجهل المؤسس الذي تحفزه سياسات المؤسسات من خلال دعم نمط واحد من التفكير وفق قوالب جامدة و تحت إكراه سياجات شكلانية براقة دون اية مرجعية ثقافية واضحة .
و استحضر موقف بول ريكور Paul Ricœur عندما تحدث عن الهوية المعادية لخط التاريخ ، حتى ان ” آلان تورين “Alain Touraine كان دقيقا جدا و هو يوضح ان غياب الخلفية الحضارية لدى المثقف كان السبب الرئيس في إنتاج معيقات بلوغ مدارك الإنصاف لصالح عموم الكادحين و لصالح السواد الأعظم من أبناء القاع الاجتماعي . فمتى يضطلع المثقف بدوره الحقيقي؟