منذ بدايات ظهوره في منتصف القرن الماضي، أثار الفن التجريدي موجات واسعة من النقد بين الرسامين والنقاد. هل تعتبر الألوان المُجردة من أي فكرة أو موضوع فنا إذا نثرت بعفوية على سطح اللوحة. ألا تكون تلك مجرد “شخبطة” لا معنى ولا قيمة لها؟
كانت الإجابة على تلك الأسئلة سببا في نقاشات حامية الوطيس اندلعت بظهور التجريدية ولم تنته حتى اليوم. ورغم ذلك، تحت غطاء “الفن التجريدي”، ظهر عدد ضخم من الرسامين الذين قدموا آلاف اللوحات التي لا موضوع لها سوى كونها تحتوي على ألوان متناثرة يمينا ويسارا بلا معنى.
وقد بيعت تلك اللوحات على مر العقود بآلاف بل ملايين الدولارات. وتركت المتابع لها أمام سؤال محير ومُجهِد في آن معا، ألا وهو “إذا كان إلقاء بعض الألوان الزيتية على القماش بعفوية يجعل من القماش لوحة، ألا يكون بذلك جميع البشر بلا استثناء رسامين؟”.
تُجيب الكاتبة البريطانية فرانسيز سوندرز، في كتابها “مَن دفع للزمّار”، الصادر عام 1993، على هذا السؤال بشكل مختلف عن كل النقاد الذين دعموا أو رفضوا التجريدية. فالإجابة هنا ليست فلسفية أو نقدية فنية بل “سياسية” في المقام الأول.
ففي كتابها، تقدم سوندر شرحا وافيا وموثقا بالأدلة والتواريخ والأسماء، لحيل وخدع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) في الحرب الباردة للسيطرة على الثقافة والفكر. وكيف أن الوكالة استخدمت في ذلك تمويلا ضخما لمفكرين وفلاسفة ورسامين كان بعضهم لا يعلم أنه ممول من وكالة الاستخبارات والبعض الآخر يعلم وعمل طواعية وأحيانا “كرها”.
ووفقا للكتاب، اعتمدت الوكالة في حربها على الشيوعية في فترة الحرب الباردة على سياسة “داوني بالتي كانت هي الداء”. فالحرب الباردة كانت حربا ثقافية في المقام الأول حاولت فيها الولايات المتحدة محاصرة الشيوعية ودرئها من داخلها في عقر دارها.
وقد كان الهدف من تلك الحرب الثقافية هو تحويل صورة الولايات المتحدة في الأذهان حتى لا تبدو “أميركا مقفرة ثقافيا” على حد وصف الكاتبة. لذلك كانت السياسة المتبعة هي تقديم عدد كبير من الصحف والمجلات الثقافية وإقامة عدد من المهرجانات الفنية التي تخدم كلها في النهاية “الحرية الثقافية” في مواجهة الجمود الفكري الذي تفرضه الشيوعية.
وقد باشرت الوكالة حربها بمحاربة الفن التصويري الواقعي بالفن التجريدي، ومولت في سبيل ذلك معارض عالمية وحمالات دعائية تنظر لفلسفة التجريدية التعبيرية ورفع شأن رسامين بعينهم، منهم طبعا رائد التجريدية الأميركي جاكسون بولوك.
كل ذلك لتفريغ الفن من محتواه، خاصة أن الواقعية التصويرية في تلك الفترة كانت مهتمة بإظهار معاناة الفقراء والعمال والفلاحين. وحتى اليوم لا يكاد يكون لعدد ضخم من رسّامي الواقعية الاشتراكية أدنى ذكر رغم مواهبهم الفذة، مقابل رسام مثل بولوك الذي تباع لوحاته اليوم بملايين الدولارات.
الأمر لا يقتصر على التجريدية، بل حتى في الغناء راعت مؤسسات ومنظمات فنية، ممولة من السي آي أي بشكل مباشر، مغنين أمثال لويز آرمسترونغ وبزغ نجمه كنوع مِن التغطية على عنصرية أميركا ضد السود.
حتى في الفلسفة مولت الوكالة صحفا ضخمة ومؤتمرات تدعم “اليسار الديمقراطي”، في محاولة منها لضرب اليسار الراديكالي والشيوعية. ومن الفلاسفة الذين أتى الكتاب على ذكرهم حنا آردنت. هذا غير عدد ضخم من الروائيين، منهم جورج أرويل الذي حصلت روايته “مزرعة الحيوان” على حملة دعائية ضخمة، لأنها كانت انتقادا فجا للأنظمة الشيوعية.
الحرب الباردة
منذ نهاية الحقبة السوفياتية تم تهميش لوحات الواقعية الاشتراكية بشكل متعمد على المستوى الدولي لأنها كانت تصور معاناة الفقراء والمهمشين. الأمر الذي لا يروق للولايات المتحدة و”العالم الحر”.
ووفقا للمقال الذي نشرته سوندرز في جريدة الإندبندنت، 22 أكتوبر 1995، احتقر معظم الأميركين الفن الحديث الذي نشأ في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات. حتى أن الرئيس الأميركي السابق ترومان سخر من التجريدية واعتبرها مزحة. وقال إنه يفضل أن يكون من “الهوتنتوت” على أن ينتمي لهذا الفن. والهوتنتوت مصطلح يعني التلعثم أو التأتأة استخدمه الأوروبيون لوصف القبائل البدائية في جنوب أفريقيا.
وفي حين صار عدد ضخم من الرسامين الواقعيين في الاتحاد السوفياتي طي النسيان رغم لوحاتهم التي اتسمت بقدر عال من الموهبة والإبداع، بيعت لوحات لرسامين تجريديين بملايين الدولارات برعاية سي آي أي.
على سبيل المثال لا الحصر، نرى في لوحة “عمال شباب في صناعة الصلب”، المرسومة عام 1961، للرسام الروسي إيفان بيفزينكو، عرض واضح لقيم الواقعية الاشتراكية في الفن، فاللوحة واقعية وتستعرض طبيعة حياة البروليتاريا عبر مشهد يعبر عن قسوة حياتهم اليومية. إلا أن لوحة كهذه تعتبر غير مقبولة في إطار الحرب الباردة الثقافية، لأنها تدعم أهداف المجتمع الشيوعي السوفياتي، وهي الآن غير معروفة أصلا.
في المقابل نرى أن لوحة “رقم 17″، التي رسمت عام 1949، للرسام الأميركي جاكسون بولوك قد بيعت بسعر 22 مليون دولار، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، في معرض “سوثبي” (Sothebys) الفني.