أين اختفى المثقف المغربي؟ إنه التساؤل الذي يجوب شبكات التواصل الاجتماعي، هذه الأخيرة التي تحولت إلى منبر لقياس الرأي العام باستمرار ورصد انشغالاته. ومرد هذا التساؤل هو الوضع المتردي الذي يمر به المغرب خلال السنوات الأخيرة. تردٍ وتدهور في معظم جوانب الحياة المعيشية والسياسية، من دون أن يدفع كل هذا المثقفين إلى المساهمة بمبادرات فكرية وسياسية- نظرية للخروج من المأزق.
وتاريخيا، عندما يواجه المجتمع تحديات كبرى يبدأ مسيرة البحث عن المنقذ والمخلّص، ويتجسد في عصرنا هذا في السياسي والمثقف، فهما البوصلة والمصباح. يطرح السياسي البرامج السياسية ويقترح المثقف التصورات الفكرية الكبرى لتشكيل وعي جديد.وتوجد دراسات مهمة حول دور المثقف في المجتمع، ولعل المنعطف كان في ملف درايفوس في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر، والمواقف التي اتخذها بعض المثقفين ومنهم إميل زولا في رسالته الشهيرة الموجهة إلى رئيس الجمهورية وعنوانها «أتهم». وتطورت مع المساهمة الفكرية المهمة لأنتونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية ودور المثقف العضوي، والالتزام المبدئي والأخلاقي لجون بول سارتر بهموم مجتمعه الفرنسي وأوروبا، ثم الدراسات الرائعة لعالم الاجتماع بيير بورديو حول العلاقة بين المثقفين والسلطة.
ويحدث أن يتجاوز التزام مثقف حدود وطنه ويصبح منارة يحتذى بها مثل، مواقف الأمريكي نعوم تشومسكي الذي يطالب المثقفين بالتحول إلى الحزب الطلائعي في المجتمع. وفي ظل التطورات والتغيرات المجتمعية وفي العلاقات الدولية التي تمر بها الدول والعالم، يقدم المثقفون على مبادرات مثل، التوقيع على رسائل مفتوحة موجهة للرأي العام أو السلطة، حول قضايا تشغل بال الجميع، أو تنظيم سلسلة من المؤتمرات والتظاهرات، ويحدث أن يصل الأمر إلى الاعتصامات لجلب أنظار الرأي العام. ومن ضمن الأمثلة، توقيع قرابة 300 من المثقفين والفنانين البريطانيين رسالة ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت». وفي إسبانيا مؤخرا، وقع عشرات الفنانين والمثقفين رسالة تطالب بحكومة ائتلاف يسارية من الحزب الاشتراكي وحزب بوديموس، واشتهرت فرنسا بمبادرات كثيرة في هذا الشأن وحول شتى المواضيع، وبدورها تشهد الولايات المتحدة دورا نشيطا لمثقفيها وفنانيها، وقد وقعوا على بيانات ضد الرئيس الحالي دونالد ترامب.
ويشهد المغرب خلال السنوات الأخيرة منعطفات وأحداثا كبيرة، على رأسها ما يصطلح عليه «العهد الجديد»، أي وصول ملك جديد وهو محمد السادس، والربيع العربي، وأحداث الريف، وهيمنة قضايا مثل، الهجرة والإرهاب والفساد، والإسلام السياسي والحريات العامة والفردية. وتستوجب هذه القضايا النقاش السياسي والفكري وإبداء المواقف، خاصة من طرف المثقف. ونظرا لارتباط هذه القضايا في جزء كبير منها على مستوى الحسم والقرار بالسلطة، هنا يطرح التساؤل حول علاقة المثقف المغربي بالسلطة الحاكمة؟ أي الآراء التي يبديها أو تقوقعه. والتاريخ المغربي زاخر بمسؤولية المثقف بمعنى حامل العلم وصاحب الوعي، القادر على توجيه الرأي العام. وقد أسس العلامة أبي علي اليوسي لضرورة تحرك صاحب العلم (المثقف) لتقديم النصح للسلطة. واشتهر بتقديم النصح للسلطان المولى إسماعيل في القرن السابع عشر قائلا قولته الشهيرة، «لا شك أنه يجب على أهل العلم أن يتكلموا على الحق، ويبينوا الحلال والحرام». وبمفاهيم حداثية، أهل العلم هم المثقفون، بينما الحلال والحرام، مع الاحتفاظ بالمفهوم الديني، يترجم حاليا بما هو قانوني وغير قانوني وكذلك ما هو ديمقراطي وغير ديمقراطي.
وكان المثقف المغربي يقف إلى جانب الشعب، خاصة في وقت المنعطفات الكبرى، ولعبت الحركة الوطنية منذ الأربعينيات دورا في جعل المثقف مرتبطا بهموم المجتمع وتطلعاته، وبرزت أسماء ذات وزن كبير في تاريخ المغرب السياسي والثقافي مثل، علال الفاسي صاحب كتاب «النقد الذاتي» المرجع الرئيسي في فهم المجتمع المغربي، ومفكرين آخرين من طينة المهدي المنجرة وإطارات مثل اتحاد كتاب المغرب. وكان انتماء المثقف المغربي للأحزاب الوطنية الكبرى مثل الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وحركات اليسار، حاسما في جعل هذا المثقف يتبنى مطالب الشعب. لكن دور المثقف المغربي تراجع خلال السنوات الأخيرة، بفعل عوامل متعددة ومتداخلة، فلم تعد الجامعة المغربية تعطي ذلك المثقف الشرس، بل تراجعت وانهارت، وهيمنت أطروحة الشيخ والمريد، التي لا تسمح بتطور الوعي، بل تعزز من الفكر التقليدي، وفقدت الطبقة الوسطى وزنها وتأثيرها، وهي الطبقة التي ينتمي إليها عادة المثقف، كما تراجع دور الأحزاب الوطنية الكبرى التي كانت حاضنة للمثقف. وعلى ضوء علاقة المثقف بالسلطة والمجتمع، يشهد المغرب الآن ثلاثة أنواع من المثقفين وهم:
*المثقف الذي يعيش في عزلة تامة، إما لأنه نذر نفسه للبحث العلمي الصرف ولم يعد يهتم بأي شيء، أو ذلك الذي انسحب محبطا من التردي الكبير.
*المثقف المؤمن بدوره في المجتمع، والذي لا يتردد في إبداء الرأي والموقف حول القضايا الفكرية والسياسية والاقتصادية، ونستحضر هنا أسماء مثل، نجيب أقصبي في الاقتصاد السياسي وقبله الراحل إدريس بنعلي، ومفكرين أمثال الأمير هشام الذي كتب عن المواطنة وضرورة القتل الرمزي للمخزن من أجل التقدم، وحسن أوريد الذي استبعد قيام دولة بمفهومها الحداثي في ظل هيمنة الفكر المخزني، ومطالبة عثمان أشقرا بحركة تنويرية في المغرب، تنهي عهد الوصاية والحجر، وأطروحات المفكر عبد الله الحمودي بنهاية ثقافة الشيخ والمريد، وأعمال المؤرخ المعطي منجب أو الممثل محمد الشوبي، ضمن آخرين يغنون الساحة الفكرية بمساهمات فكرية ومواقف سياسية تجاه قضايا مثل الربيع العربي، والحراك الشعبي في الريف، وحرية التعبير وإشكالية التنمية.
*أما الصنف الثالث، ومنهم مبدعون كبار، فهو المثقف المهادن للسلطة الذي ينخرط في مشروع الصمت وأحيانا تجميل وجه السلطة ثقافيا، لضمان حصة من «الريع الثقافي»، أي المشاركة في الأنشطة الثقافية التي تشرف عليها الدولة والاستفادة المادية منها. ونجحت السلطة خلال العقدين الأخيرين في خلق طابور كبير من هذا النوع من المثقفين، ولم يحدث هذا حتى إبان فترة الملك الراحل الحسن الثاني. وتفاقم الوضع مع انخراط مثقفين مغاربة في مشاريع ثقافية في الخليج العربي، خاصة تلك التي تديرها دول تعادي الديمقراطية، وتحسب على «الثورة المضادة» مثل حالة الإمارات العربية. فهل دولة مثل الإمارات ستسمح ببروز فكر وثقافة التنوير في العالم العربي؟ عندما يسعى المثقف إلى إرضاء السلطة يفقد الابداع بوصلته، وهو ما يفسر هشاشة الإنتاجات الفكرية والفنية في المغرب في الوقت الراهن.
المثقف يبدع، ولكنه مطالب بالإيمان بمجموعة من القيم التي تحتم عليه الالتزام بالمساهمة الفكرية والعملية في تنوير المجتمع، لاسيما إبان الفترات الحرجة والمنعطفات الكبرى. فالمثقفون هم الحزب الطلائعي للمجتمع، لكن هذا الحزب يغيب في المغرب في الوقت الراهن، مع بعض الاستثناءات، بسبب هيمنة «الريع الثقافي».