العملية الإرهابية التي استهدفت المغرب خلال الأسبوع الأخير لا يمكن الاستمرار في قراءتها بمعزل عن الوضع العام الذي تعيشه البلاد. إعادة الأسطوانة نفسها التي تتحدث عن وطننا كواحة للاعتدال الديني والوسطية وغيرها من المصطلحات الفضفاضة هو خداع للنفس وكذب عليها، والذي عادة ما يستعمل لـ”ستر ما ستر الله” من واقع عنيف يختلط فيه ما هو اجتماعي بما هو سياسي، اقتصادي، تربوي أو ديني.
من يعيش خارج المغرب ويسافر إليه من حين إلى آخر يمكنه أن يلاحظ وبالعين المجردة درجة التدهور الذي تعيشه البلاد. كل المجهودات المبذولة لإعطاء صورة مغايرة للواقع تتلاشى حينما يتعمق المرء في ما تخفيه طبقات الماكياج الكثيفة التي تم وضعها في وجه بلد تتآكله لعبة المصالح الضيقة التي تتجسد في الصفقات الخيالية التي تملأ الجيوب نفسها. مافيا جاثمة على صدر شعب يتضور من شدة القهر.
أكثر من تسعين في المائة من شباب هذا الوطن، حسب إحصائيات دقيقة، يصرحون برغبتهم في الهجرة والهروب بجلدهم من جحيم اسمه المغرب، و”أصحاب الحال” “ما مسوقينش”، كأن الأمر لا يهمهم؛ بل ربما هناك من يستعملهم للاستمرار في ابتزاز العالم بأسره مقابل إيقاف زحفهم الذي يقض مضاجع الأوروبيين في عملية مقايضة مقرفة يستفيد منها الأشخاص أنفسهم.
ثم هناك تجار الدين الذين خرجوا يتباكون على مقتل الشابتين الأسكاندينافيتين بدموع التماسيح، بينما هم يكرسون خطابات الحقد والكراهية وبشكل يومي. كل من يختلف معهم فمأواه جهنم؛ يملؤون العقول بفتاواهم المهترئة والقادمة مباشرة من قرون التخلف الإسلامي الذي لا نهاية له ثم “يفاجؤون” حينما يرون نتائج “وعظهم” المقيت.
المغرب سادتي ليس بلد تعايش سلمي ولا هم يحزنون. لنتوقف عن تكرار هذه الكذبة التي رددناها حتى التخمة وقررنا لسوء حظنا تصديقها. المغرب دولة عنف مستمر يتحرك بأشكال مختلفة ويتلون حسب الظروف.
الدولة التي تحتكر “العنف” قانونيا تستعمله وبسخاء كي تقمع أي صوت مخالف، تلقي بأقصى العقوبات السجنية في وجه كل من سولت له نفسه التشكيك في نظام مبني على الظلم الاجتماعي، كما تجتهد في قهر من لا يريد الركوع لـ”أسياد” هذا الوطن.
النظام التربوي، وبشكل عام طبعا، مؤسس على ركائز تكرس العنف كوسيلة لفهم العالم. دروس التاريخ كلها غزوات وفتوحات..دروس التربية الدينية هي دعوة صريحة إلى الإجرام. هذا لمن أتيحت له الفرصة لكي يتمدرس؛ والمغرب، كما يعرف الجميع، لم يستطع إلى حد الآن التغلب على أكبر آفة قد تصيب مجتمعا ما: الأمية.
وفي السياق نفسه فإن أكبر عنف يمارس على حاضر المغاربة ومستقبلهم هو التخلي التام عن أي تصور يهدف إلى إصلاح التعليم. بناء الحجر الذي يستثمر فيه البعض لا يمكنه أن يسبق بناء البشر كما هو الحال عندنا. جيد أن يكون لنا قطار سريع ولكن سيكون من الأفضل إرفاقه بإنسان مؤهل وذي تكوين ووعي.
كل الأرقام تقول إن المغاربة، بالإضافة إلى الإخوة التونسيين، هم أول مريدي الفكر الداعشي بحضورهم الكثيف في صفوف هذه المنظمة الدموية. أغلب العمليات الإجرامية التي كانت مسرحها دول أوروبية قام بها مواطنون من أصول مغربية أو يحملون جوازات سفر مغربية. هذه وقائع مؤكدة وليست آراء قابلة للأخذ والرد.
لا داعي للحديث عن العنف اليومي الممارس ضد النساء والأطفال..لا داعي لذكر عدد ضحايا العنف الجسدي واللفظي في شوارعنا. في آخر زيارة لي إلى طنجة منذ سنتين شاهدت في بضع ساعات ثلاث مشاجرات دموية في أهم شارع بالمدينة، ولأسباب واهية. أعيش في روما منذ أكثر من عشرين سنة ولم أر شجارا بين ايطاليين إلى حد اليوم. هذا لا يعني عدم وجود إجرام وقتل الخ بإيطاليا، ولكن الشارع العام له حرمته وأمنه.
أصحاب الفكر الإخواني، والذين أحبوا السلطة دون فهم لمسؤولياتها، يثرون القاموس السياسي العالمي بخطاب إيديولوجي مزدوج يركب على كل شيء بغاية الحفاظ على مصالح طبقة لا يمكنها الاستمرار ربع ساعة في الحكم بدون عنف.
المعارضة السياسية غائبة أو منعدمة، بل منها من قبلت بدور الخادمة في قصور السادة لعلها تقتات بفتاتهم؛ يتغنى أغلبها بالديمقراطية بينما زعماؤها قابعون على عروش أحزابهم لا يتورعون في استعمال نفس اللغة العنيفة التي طالما نددوا بمن يمارسها ضدهم.
وزير حقوق الإنسان يؤازر “أخا” له في الله عن عنف محتمل قد مارسه في حق مختلف بريء، ولكنه لا يجد حرجا في تبرير الاعتداء على أشخاص لهم ميولات جنسية مختلفة. الديمقراطية هي كل لا يتجزأ وليست قائمة طعام نختار منها ما نريد ونرفض ما لا يتماشى مع حميتنا الأيديولوجية.
المنطق نفسه يجب استعماله مع بعض دعاة العلمانية عندنا الذين لم يجدوا أي حرج في المطالبة بمنع داعية مصري عن الكلام، ناسين أو متناسين أن إيديولوجية التخلف التي يدعو إليها هذا الوجه التلفزيوني المعروف وغيره تزيد قوة بلعب دور الضحية، وهو ما ساهموا فيه بخطوتهم غير محسوبة العواقب. الديمقراطية وحرية التعبير هي حق يجب الدفاع عنه وإلى ما لا نهاية، خاصة حق أولئك الذين نختلف معهم. الأفكار تناقش ولا تمنع. أما من يدعو إلى العنف فهناك قوانين الزجر التي يجب أن يسهر على تطبيقها القضاة وليس المثقفين. إنها أبجديات الديمقراطية.
لننظر إلى واقعنا بعين مجردة وسنرى أن هناك أمورا كثيرة يجب أن تتغير وبسرعة “قبل ما يفوت الفوت”. وأول أمر يجب أن نراه هو أن مجتمعنا ليس مجتمعا مسالما بالمرة. ومهما تعددت أسباب العنف عندنا فإن الطريق الأنجع لمواجهتها هو الاعتراف برسوخ هذا “المرض” في ثقافتنا وتعاملنا معه بحزم انطلاقا من نقد ذاتي لكل شرائح المجتمع من “الرأس حتى للساس”، كل على قدر مسؤوليته طبعا. فقط بهذا الشكل يمكننا الانطلاق في رحلة طويلة وشاقة في عالم لا يرحم الشعوب التي تنافق نفسها.