تعرض الصحافي السعودي جمال خاشقجي لعملية اغتيال سياسية، من دون استبعاد فرضية الاختطاف، وهي تحيل على عمليات أخرى شغلت بال الرأي العام العالمي وأبرزها اختطاف واغتيال المغربي المهدي بن بركة، والنقابي الأمريكي جيمي هوفا. وعملية الاختطاف والاغتيال السياسي هذه ستحمل انعكاسات خطيرة على السعودية أبرزها التوتر مع تركيا، وتحول الملف إلى ما يشبه سيف دومقليس في علاقات الرياض مع واشنطن.
وقعت الجريمة يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، عندما زار خاشقجي قنصلية بلاده في اسطنبول من أجل وثائق إدارية خاصة بزواجه، ويبقى المعطى الأكيد والثابت، الذي لا يمكن نهائيا تجاهله هو، دخول الصحافي إلى المبنى الدبلوماسي لبلاده ولم يخرج حيا. وتتعدد النظريات حتى الآن بين تعرضه لعملية اغتيال بشعة في مبنى القنصلية، أو اختطافه وإرساله إلى السعودية، والمعطى الثاني الذي لا يرقى إليه الشك هو تعرضه لعملية تغييب قسرية ذات طابع سياسي.
ومع حدوث هذه الجريمة، يمكن استعادة جرائم سياسية وقعت في الماضي وخلّفت وراءها الكثير من التساؤلات، لكنها تبقى اغتيالات سياسية. وعلى رأس هذه الجرائم، من العالم العربي جريمة اغتيال المهدي بن بركة، اليساري المغربي، سنة 1965 في مدينة باريس. ومن العالم الغربي جرائم كثيرة، لكن التي أخذت بعدا أسطوريا هي اغتيال النقابي الأمريكي جيمي هوفا سنة 1975. وقعت عمليتا الاغتيال في ظروف غامضة حتى الآن، في الستينيات والسبعينيات، إبان الحرب الباردة، وهذا يجعل الروايات تتعدد، ومعها تعدد الأطراف التي استهدفت كلا من الشخصيتين، لكن في حالة الصحافي خاشقجي فقد وقعت جريمة الاختطاف تحت أضواء كاشفة، ويبقى صاحب المصلحة في العملية واحد كذلك.
توجه أصابع الاتهام إلى دولة واحدة وهي العربية السعودية، وداخل هرم السلطة تشير الأصابع إلى شخصية واحدة وهو ولي العهد محمد بن سلمان. والواقع، فهي كثيرة العوامل والحجج التي تجعل ولي العهد هو الآمر بهذه الجريمة الشنعاء، ونذكر منها:
*فكريا، يؤمن هذا الشاب إلى مستوى القداسة ـ وهو صاحب طموح غير محدود باستثناء عندما يصطدم بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ـ بكتاب “الأمير” لميكيافيلي الذي يجري تلخيصه في المقولة الكلاسيكية “الغاية تبرر الوسيلة”. يعتقد في صلاحية تطبيق كتاب يعود إلى عام 1513 في وقتنا الراهن. في الوقت ذاته، يعتقد اعتقادا راسخا بقوة بلاده دوليا، بفضل احتياطاتها من البترول، وهذا كاف، وفق رؤيته، لاتخاذ قرارات وإن كانت تضرب عرض الحائط القانون الدولي.
*عمليا، أقدم هذا الشاب ومعه فريق العمل المرافق له على قرارات خطيرة، أثارت الكثير من الجدل، فقد زج بالجزيرة العربية في حرب اليمن، لكي يصنع لنفسه وضعا عسكريا باعتباره السيف الذي يواجه شيعة إيران. ولم يتردد في اعتقال رئيس حكومة دولة ذات سيادة، اللبناني سعد الحريري، وأقدم على اعتقال أبناء عمومته ومقربين في سجن فندق كارلتون ريتز بمبرر محاربة الفساد.
وهكذا، شخصية مركبة ومعقدة ومهوسة بحب السلطة وتتطلع إلى تقمص دور المؤسس الثاني لآل سعود بعد المؤسس الأول عبد العزيز، لن تتردد في اغتيال أي شخص يقف في طريقه، لاسيما إذا كان يشكل خطرا في الحد الأدنى فما بالك بالخطر الكبير. وفي هذا الصدد، هناك رواية تذهب أبعد من المقالات الانتقادية تتعلق بشعور محمد بن سلمان بالخطر من حرية تحرك جمال خاشقجي في العواصم الكبرى، وأساسا واشنطن، كان يخشى لعبه دورا في إقناع الولايات المتحدة بالخطر الذي يشكله مستقبلا ولي العهد ملكا على مصالح الجميع. واعتقد في تنسيقه مع بعض الأمراء في الداخل. ونتساءل، هل ستكون انعكاسات قوية لهذه الجريمة على العلاقات الدولية للعربية السعودية؟ هناك براغماتية تهيمن على العلاقات الدولية، تبقى الكلمة للمصالح الكبرى، لكن الأخطاء الشنيعة تتحول إلى مصدر للتنازل عن الكثير من المواقف، بل الابتزاز، ولعل المثال البارز هو طمس الولايات المتحدة لمدة طويلة تورط السعودية في تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول ولكن مقابل تنازلات مالية بين الحين والآخر، وعدم التشكيك في مخططات واشنطن في الشرق الأوسط. الدول الكبرى التي لديها مصالح في السعودية ستصمت نسبيا، قد يصدر عنها تنديد محدود في البدء، ولكنها ستذّكر الرياض بين الحين والآخر بتحريك هذا الملف، خاصة واشنطن. وارتباطا بهذا، لا يمكن استبعاد قيام السعودية بدفع مليارات الدولارات التي يطالبها بها الرئيس ترامب مقابل تبريد ملف خاشقجي.
نعم، سيتحول ملف خاشقجي إلى سيف دومقليس جديد في يد الغرب على رأس العربية السعودية. وسيكون مصدر الاحتجاج والازعاج الكبير هو برلمانات الدول والتكتلات مثل، الاتحاد الأوروبي والجمعيات الحقوقية الدولية مثل، منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ضمن أخرى، لن تصمت وستحاول استصدار قرارات ومواقف لمحاصرة جريمة بشعة في حق صحافي يمتلك فقط قلمه.
ويبقى السؤال المعلق: ماذا عن تركيا؟ أبان الرئيس طيب رجب أردوغان عن حساسية مفرطة تجاه استقلالية بلاده. لم يتردد مثلا في مواجهة الولايات المتحدة بدل التخلي عن صفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 الروسية. ينظر الأتراك إلى التصرف السعودي باختطاف خاشقجي تحديا، بل إهانة كبيرة وكأنهم حولوا تركيا إلى ضيعة، ويدركون أن السعوديين لن يستطيعوا تنفيذ علمية مماثلة في دولة غربية وازنة. كان خاشقجي يقيم في الولايات المتحدة، ولكن لم تتجرأ الرياض حتى على مراقبته خوفا من القضاء الأمريكي. وبغض النظر عن التصريحات النارية التي قد تصدر عن القيادة التركية، وربما ملاحقة بعض السعوديين، فقد ارتكبت السعودية خطأ استراتيجيا باختطاف خاشقجي، فقد أضافت تركيا إلى قائمة الأعداء في الشرق الأوسط، وهي مسبقا في مواجهة إيران وسوريا والعراق والآن تركيا، كل هذا يحدث من طرف دولة لا تستطيع حماية نفسها ونظامها لمدة أسبوعين، وفق الرئيس الأمريكي ترامب.