شكل طرد الموريسكيين من إسبانيا مأساة تاريخية حقيقية، ولا يمكن تخيل تكرار هذا السيناريو في القرن الواحد والعشرين، لكن توجد ظاهرة تتفاقم في إسبانيا بشكل مقلق للغاية في وقتنا الراهن، وهي الارتفاع المهول لعدد المهاجرين المغاربة من دون وثائق قانونية، ما يجعلهم يعيشون على هامش المجتمع ويفتقدون للحقوق تدريجيا، ويمكن تسميتهم بالموريسكيين الجدد.
والموريسكيون هو الاسم الذي أطلق على المسلمين الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط مملكة غرناطة سنة 1492. جزء منهم تنّصر وطرف حافظ على إسلامه بينما فضل آخرون التنصر ظاهريا والحفاظ في الخفاء على الإسلام. وجرى طرد الموريسكيين من إسبانيا ابتداء من سنة 1609 بقرار من الملك فيلبي الثالث. ولم يحدث الطرد بعد سقوط غرناطة، كما يعتقد الكثيرون، بل بعد مرور قرابة 120 سنة. ومن هول هذا الإجراء، قال الكاردينال الفرنسي الشهير ريشليو في تلك الفترة، وهو المعروف بعدائه للمسلمين، «عملية طرد الموريسكيين تعد العمل الأكثر بربرية في تاريخ الإنسان».
كان الموريسكيون يعيشون على هامش المجتمع الإسباني في القرن السادس عشر، اعتبرتهم الملكية الإسبانية وقتها بمثابة الطابور الخامس الذي قد يساعد على الغزو التركي لهذه المنطقة الأوروبية، وكان قرار الطرد تحسبا للأسوأ.
لا يمكن، الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين، حيث العلاقات وسط المنتظم الدولي قد تقدمت، وتخضع لاتفاقيات دولية على رأسها الأمم المتحدة، تصور تكرار سيناريو الموريسكيين في إسبانيا أو أوروبا؟ سيكون الجواب بالنفي، لكن هناك معطيات نسبية تدعو إلى القلق الشديد، إذ يوجد أكثر من 200 ألف مغربي في وضع غير قانوني في إسبانيا، نسبة مهمة منهم كانت تمتلك بطاقة الإقامة وفقدتها جراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بهذا البلد الأوروبي. ويشترط قانون الهجرة الإسباني على المغاربة تقديم عقد العمل وتأدية نسبة من الضمان الاجتماعي لتجديد بطاقة الإقامة. ولم يكن هذا في متناول الجميع، فقد وصلت البطالة سنة 2011 إلى 25% في إسبانيا. وسنة بعد سنة، ارتفعت نسبة المغاربة الذين فقدوا بطاقة الإقامة القانونية، ووصلت إلى مستويات تقارب 200 ألف مغربي، وهي ما بين 20% إلى 25% من مجموع المغاربة المقيمين في إسبانيا. ويعد رقم 200 ألف مرتفعا للغاية، وهو ليس مجرد رقم من الأرقام التجريدية، بل يتعلق الأمر بـ200 ألف إنسان بأحلامهم وهواجسهم وقلقهم واليأس الذي يسيطر عليهم. وتؤكد تجربة المهاجرين غير النظاميين أنهم يعيشون على هامش المجتمع وكأنهم أناس غير مرئيين، هاجسهم الرئيسي هو تفادي السقوط في يد شرطة الهجرة حتى لا ترحلهم إلى بلدهم الأصلي.
والعيش على هامش المجتمع وتفادي الشرطة يترجم عمليا بالحرمان من الحقوق الأساسية، نظرا للخوف الذي يسيطر على المهاجر، لهذا أصبح موضوع حقوق المهاجرين غير القانونيين من المواضيع الحاضرة في الخطابات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية. وفي حالة المغاربة، يحدث هذا في دولة تصنف بالديمقراطية. وعمليا، تعتبر إسبانيا الدولة الأوروبية التي تسجل أقل معدل للاندماج والحقوق السياسية للجاليات المهاجرة، خاصة المغربية مقارنة مع دول قطعت أشواطا مهمة مثل فرنسا وهولندا وألمانيا وبلجيكا والسويد. وإذا كان المهاجر بما في ذلك المتجنس يعيش على هامش المجتمع بسبب غياب الاندماج السياسي والاجتماعي، فكيف سيكون الأمر بالنسبة للمهاجر الذي فقد بطاقة الإقامة، ويعتبر من وجهة القانون خارج القانون. لا تقتصر الظاهرة على شباب وأشخاص منفردين، بل أحيانا عائلات بالكامل تعيش وضعية غير قانونية في إسبانيا، فأي مصير ينتظر هذا النوع من العائلات، خاصة الأطفال؟
فقد شهدت إسبانيا موجة من الهجرة خلال العقدين الماضيين بفضل الإقلاع الاقتصادي منذ بداية التسعينيات. ورغم خطاب مكافحة الهجرة، كانت حكومات مدريد، مثلها مثل باقي الحكومات الأوروبية، تشجع على قدوم المهاجرين، وإن كان بطريقة غير علنية، بسبب الحاجة الماسة لمختلف القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها الزراعة والبناء والسياحة إلى اليد العاملة. ومنذ سنوات، تعمل حكومة مدريد على استقدام أكثر من 15 ألف امرأة مغربية سنويا للعمل في حقول الفراولة في الجنوب الأندلسي، وخلال الموسم الجاري، 2018، استقدمت 18 ألف امرأة.
وقبل الأزمة الاقتصادية، كان معظم المغاربة يقيمون بطريقة قانونية، والآن، لا يمكن لإسبانيا التنكر لقرابة مئتي ألف مغربي. ونقلت الصحافة الإسبانية عن محاولة فتح المغرب حوارا مع السلطات الإسبانية بشأن وضعية المغاربة، وكانت مبادرة محتشمة من طرف الرباط، ولم تكلف هذه الأخيرة نفسها حتى الكشف عنها للرأي العام. وهذا ليس بالجديد عن دولة أنشأت عددا من المؤسسات المهتمة بالهجرة، ولكنها فارغة المضمون ومن دون نتائج تذكر.
ولا تهتم الأحزاب الإسبانية والمغربية بهذه الظاهرة، وتغيب تقريبا عن أجندة ناشطي المجتمع المغربي والإسباني على حد سواء، بسبب اهتمامهم فقط بظاهرة قوارب الهجرة، نظرا لمآسيها المباشرة. وكل هذا، يجعل مئتي ألف مغربي من دون صوت يعبر عن تطلعاهم للعيش الكريم ويعانون من الحرمان وسيعانون منه أكثر بكل ما سيحمل ذلك من تبعات اجتماعية مقلقة.
نعم، ومن باب المقارنة الرمزية والنسبية، سيناريو الموريسكيين يتكرر في إسبانيا، وإن اختلفت السياقات التاريخية. وأصبحت إسبانيا مطالبة بإيجاد حلول لهذه الظاهرة الخطيرة، لأنه لا يمكنها تكرار سيناريو الطرد الجماعي لمئتي ألف مغربي، كما حدث في القرون الماضية. فهل ستتحرك مدريد والرباط وبدعم من الاتحاد الأوروبي والأحزاب السياسية وناشطي المجتمع المدني في البلدين لإيجاد حل هذه المشكلة؟
حتى لا يتحول مئتا ألف مغربي إلى موريسكيين جدد في إسبانيا/ د. حسين مجدوبي
صورة رمزية