يكشف التاريخ الدور الكبير الذي تلعبه مناطق ومدن معينة في مسيرة الأمم والشعوب في فترات زمنية معينة، وتكون حركة تؤدي إلى نهضة فكرية وسياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وتكون أحيانا المنبه الذي يدق جرس الإنذار للتحذير من كوارث مقبلة. ويحدث أن يوجد عقلاء وذوو الألباب وسط الدولة أو الأمة يمتلكون فطنة وبداهة، ويبادرون لاحتضان التقدم لما فيه خير الأمة أو يسارعون لاحتواء المخاطر، لتجنيب الأمة المساوئ، فهذه المدن أو المناطق تتقمص ضمير الأمة في فترات معينة.
وتاريخ المغرب زاخر بأمثلة وأحداث لعبت فيها مناطق ومدن دورا وازنا نحو التغيير مثل، مراكش وفاس وتطوان ومنطقة الصحراء، أو التحذير من مخاطر تمس أسس الأمة المغربية. وتعد منطقة الريف شمال البلاد من الجهات الرائدة، كمصدر بعث بإشارات قوية إلى الأمة المغربية في لحظات تاريخية دقيقة لليقظة، وتفادي الأسوأ والانهيار، لكنها لم تجد صدى.
وتعود اللحظة التاريخية الأولى، وفق تصورنا، الى أواخر القرن الخامس عشر، عندما بدأت ملكة إسبانيا إيزابيلا الكاثوليكية، بعد القضاء على مملكة غرناطة، بتنفيذ حلمها التاريخي، بضرورة احتلال المغرب وتحويله إلى المسيحية، ليكون درعا ضد أي هجمات مستقبلا. وبدأت باحتلال مليلية سنة 1497 في عملية عسكرية خاطفة. انتفضت ساكنة المنطقة ووقفت سدا أمام الغزو الأوروبي وقتها. ولم تنجح أساطيل إسبانيا في احتلال أي شبر من الواجهة المتوسطية المغربية طيلة قرون. نبهت ساكنة الريف السلطة المركزية إلى المخاطر المقبلة من الخارج، وبالضبط الشمال، لكن التنبيه لم يؤخذ بعين الاعتبار، وسقطت مدن ومناطق ساحلية أطلسية في يد البرتغاليين.
وتتجلى اللحظة التاريخية الثانية في المقاومة المغربية الريفية للاستعمار الفرنسي والإسباني. فقد كبّدت هذه المقاومة إسبانيا أكبر هزيمة في تاريخها العسكري، وهي معركة أنوال خلال يوليو 1921، وتعرف في أدبيات الجيش الإسباني بـ«الكارثة»، لأنها تعدت مفاهيم الهزيمة. وألحقت المقاومة نفسها هزيمة مدوية بفرنسا سنة 1925 في معارك ورغة بالقرب من فاس. وكانت المقاومة المغربية في الريف قد وجهت نداء إلى السلطان يوسف وقتها للانضمام إلى المقاومة، لكنه مال إلى فرنسا، بل غضّ الطرف عن استعمال إسبانيا وفرنسا للغازات السامة ضد مغاربة الريف.
لو كانت الدولة قد انضمت وقتها الى المقاومة الريفية ومقاومات أخرى في الأطلس لطرد الشعب المغربي المستعمر من أراضيه في العشرينيات، لكن التنبيه المقبل من الريف ومن مناطق أخرى لم يجد صدى لدى الدولة وقتها، واستمر الاستعمار حتى سنة 1956 بكل المآسي التي حملها، وإن كان مناصرو فرنسا يبررون الاستعمار بمساهمة فرنسا في تحديث بنيات المغرب العتيق. والمفارقة التاريخية هو تبني الدولة المركزية وقتها، وحتى الأمس القريب، اعتبار المقاومة الريفية بزعامة الخطابي خيانة، لأنها أعلنت الجمهورية، لكنها عادت وبنوع من التحفظ لاعتبارها حركة مقاومة من رحم الشعب.
إن ما وقع مع الخطابي هو الذي يتكرر نسبيا اليوم في ملف الحراك الشعبي في الريف. فقد انتفض الريف اجتماعيا، مطالبا بأجندة اجتماعية، تتضمن الحق في التطبيب والتعليم والشغل، قطاعات متدهورة في ربوع الوطن بسبب السياسات الخاطئة. الحراك الشعبي في الريف هو صرخة عميقة مرسلة نحو الدولة المركزية لكي تستفيق من سباتها، بشأن التنمية المزيفة التي اعتقدت فيها طويلا ودفعتها إلى القول بانتقال المغرب إلى مصاف الدولة الصاعدة، ولكن بعد سنوات بدأ الوهم يزول، والواقع المر يفاجئ كل المغاربة بمن فيهم الملك محمد السادس نفسه الذي اشرف إلى فشل النموذج التنموي المغربي.
صرخة الريف الاجتماعية هي تنبيه الى المستوى الخطير للفساد الذي ينخر أسس الأمة المغربية، فساد أتى على التعليم والصحة والشغل والأمل في المستقبل. كل الأمم المتطلعة إلى الرقي تقوم على هذه الأسس، فلتجيب الدولة المغربية عن كيف سيكون المستقبل في ظل التدهور المريع لهذه الأسس الثلاثة، بشهادة تقارير مستشاري الملك محمد السادس نفسه، ومنها تقرير المستشار عمر عزيمان الذي رسم منذ أيام صورة قاتمة وخطيرة عن التعليم.
كان على الدولة المغربية التعامل مع الحراك الشعبي في الريف بمثابة صرخة لتجنيب الأمة المغربية بكل مكوناتها المستقبل المظلم الذي ينتظرنا جميعا، وهو انهيار أسس هذه الأمة وتراجعها المبرمج بين الأمم. لكن الدولة المغربية فضلت التعامل بمنطق أمني ضيق للغاية، وبتصور بوليسي يتوهم وجود أعداء الوطن في كل بيت وفي كل منطقة. تصور يزيد من الاحتقان وسط الشعب ويؤدي الى نتائج وخيمة، وهو تصور مهيمن منذ الاستقلال وتسبب في كوارث ومنها ملف الصحراء الذي يؤدي الشعب المغربي ثمنه منذ عقود، بسبب غلبة المنطق البوليسي. الدولة واهمة إذا كانت تعتقد انها بمواجهة مطالب اجتماعية في الريف فهي تحاصر الانفصال في شمال البلاد، لا يوجد انفصال وإن وجدت أصوات لا تتجاوز أصابع اليد لا تأثير لها، بل الدولة بسياستها تنفصل عن هموم الشعب. مهمة الدولة الحقيقية ليست محاصرة الريف بل محاصرة الفقر والتهميش واليأس، ولن يتأتى هذا إلا عبر محاربة حقيقية للفساد.
الأمجاد التاريخية لا تبنى على التصورات البوليسية، بل على مدى نجاح السلطة في توفير الكرامة للشعب، هذه الكرامة التي أصبحت مهدورة في وطن اسمه المغرب، يموت جزء من شبابه في البحر هربا من التعاسة، ويوميا تقريبا نتفاجأ بشخص يحرق نفسه احتجاجا على الأوضاع. إنها مفارقة تاريخية، أن يكون بلد ذو أمجاد تاريخية مثل المغرب ساهم عبر التاريخ في صنع الخريطة الدولية عبر أحداث تاريخية مثل، فتح الأندلس ومعركة وادي المخازن، ولعب دور الرابط بين إفريقيا وأوروبا، ويتمتع بآلاف الكيلومترات من الشواطئ، وموارد طبيعية متعددة، يحتل المركز 129 في التنمية البشرية، وأصبحت الدولة تدق أبواب أوروبا والخليج للحصول على مساعدات مالية بسبب الإفلاس المتستر عليه.
الحراك الشعبي في الريف ينبه إلى ضياع الأسس التي تقوم عليها الأمة المغربية، لكن الصرخة أو الرسالة لم تجد استجابة مناسبة، ولنتأمل مستقبل المغرب في ظل انهيار التعليم والصحة والشغل.
الريف ضمير الأمة المغربية/ د. حسين مجدوبي
صورة من تظاهرات الريف/ أ ف ب