الأسباب الدينية التي تقف وراء قرار ترامب بشأن القدس/ د. حسين مجدوبي

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 6 ديسمبر 2017 تنفيذ نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس العربي، وبهذا يكون هذا البلد أول من سيقوم بهذا الإجراء الدبلوماسي، الذي يفجر أزمة تتجاوز السياسي إلى الصراع الديني الأبدي، بحكم الرمزية القدسية لمدينة القدس. وتتعدد القراءات والتأويلات لهذا القرار بين سياسية ودينية، خاصة هذه الأخيرة التي تعد ذات أهمية ولكنها مغيّبة لاسيما في العالم العربي.
قرار الرئيس ترامب لم يكن مفاجئا، إذا أخذنا بعين الاعتبار مجموعة من المعطيات وعلى رأسها: رغبته في تنفيذ برنامجه الانتخابي، الذي التزم به أمام ناخبيه. ومن ضمن التزاماته نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس. والمعطى الآخر يتجلى في أن قرار نقل السفارة ليس وليد اليوم، بل هو مطلب من مطالب جزء من القيادة السياسية الأمريكية منذ عقود، وكانت أبرز خطوة هي توقيع الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون على قرار نقل السفارة سنة 1995 لكنه لم يطبق القرار. علاوة على هذا، فقد حصل الرئيس ترامب على ما يشبه المصادقة الصامتة من طرف دول عربية، ومنها العربية السعودية والإمارات لعملية نقل السفارة.
من جانب آخر، يصعب فهم قرار ترامب إذا استحضرنا عوامل عسكرية واقتصادية، وتم إهمال العامل الديني. في هذا الصدد، يغيب عن الكثير من المحللين للعلاقات الدولية، خاصة في العالم العربي هيمنة الدين على القرار الجيوسياسي الأمريكي، كما يغيب تغلغل الجماعات الدينية في الصناعة العسكرية الأمريكية، علاوة على هيمنتها على الكثير من مراكز التفكير الاستراتيجي لإنتاج أفكار معينة. في هذا الصدد، نستحضر مثالا شهيرا وهو: جون كلود موريس، المدير السابق لجريدة «لوجورنال دو ديمونش» ما بين 1995- 2005، ينقل عن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك أن الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش الابن برر الحرب على العراق بأنها حرب ضد يأجوج ومأجوج. لم يصدق شيراك أن رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم يؤمن بهذه النظريات القريبة من الخرافة، ولكنها تعتمد على روايات دينية من الإنجيل. الحديث عن مثل هذه الأحداث يسبب السخرية، لكن بالنسبة لشيراك وقتها لم يضحك، بل بلغ القلق منه أشده لعلمه بخطورة هذا الفكر في صنع القرار السياسي الأمريكي. ونطرح التساؤل التالي: هل قرار ترامب ينطلق من دعم إسرائيل؟ أم من تلبية لمطالب دينية تؤمن بها شريحة كبيرة من مناصريه وناخبيه وكذلك اعتقاده هو ـ الرئيس- بروايات دينية مقلقة للغاية حول ما يسمى بعودة المسيح؟
تبرز استطلاعات الرأي والتجارب أن ما يقارب 75% من الشعب الأمريكي تؤمن بدور فعال للدين في السياسة، كما اعتاد رجال الدين لعب دور مهم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومجلسي الشيوخ والنواب. وإذا كان الليبراليون واليساريون في العالم العربي، بل حتى في أوروبا ينتقدون دور رجال الدين، سواء دور المسجد أو الكنيسة، فهذا يغيب كليا في التقاليد الأمريكية. إذ يساوي نقد الدين ودور رجال الدين هزيمة في الانتخابات، سواء الرئاسية أو لهيئات أخرى مثل الكونغرس أو البلدية. وإذا كانت أوروبا قد نجحت في الفصل بين الدين والسياسية بشكل كبير، فالولايات المتحدة لم تتجاوز العلاقة بين الدين والسياسية. وخلال نوفمبر 2011، صادق الكونغرس مجددا وبأغلبية مطلقة (9 أصوات معارضة) على استمرار تعبير «في الله نثق» شعارا رئيسيا للولايات المتحدة، كما أن آلاف البلديات الأمريكية تجعل من هذا الشعار شعارها الرئيسي.
وبالاطلاع على أدبيات العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة، سنجد عالما مثيرا للغاية، إذ أن نسبة مهمة من الناخبين المتدينين يعتقدون في أن قيام دولة إسرائيل يعتبر تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس، لأنها علامة على عودة المسيح إلى الأرض مجددا. ويؤمن ترامب بهذه النبوءة، ولهذا فهو بمثابة بطل قومي لدى الإنجيليين، حتى أن فرانكلين غراهام ابن الواعظ الإنجيلي الشهر بيلي غراهام، صرح خلال يناير الماضي بأنه «لم يكن هناك أي دور للقراصنة الروس في اختيار ترامب، بل الرب هو الذي تدخل في اختياره». الواعظ نفسه قال خلال سبتمبر الماضي «نحن نعيش الآن علامات اقتراب عودة المسيح عليه السلام». وكان استطلاع للرأي من إنجاز مركز بيو للأبحاث قد كشف سنة 2013 أن نصف المسيحيين في الولايات المتحدة يعتقدون بعودة المسيح قبل سنة 2050. ومن ضمن التعليقات المهمة حول قرار ترامب ما صدر عن المبعوث الأمريكي السابق في الشرق الأوسط وسفير واشنطن السابق لدى إسرائيل مارتين إنديك الذي يفسر القرار الرئاسي بتلبية ترامب لمطالب ناخبيه من المتدينين الإنجيليين. والمثير إن نسبة مهمة من الإنجيليين يعادون اليهود، وكانت تسجيلات صوتية قد كشفت كيف كان بيلي غراهام يعادي اليهود ويتهمهم بالسيطرة على الإعلام للتلاعب بالرأي العام الأمريكي لكنه يعتبر إسرائيل ضرورة مهمة للانتقال نحو مرحلة عودة المسيح.
ويعتبر ترامب من المؤمنين بهذه النظرية الدينية، التي بلورها بقوة الإنجيليون وإن كانت سائدة من قبل بطرق مختلفة. والواقع، سيصاب المرء بالاندهاش لو اطلع على نسبة المسؤولين الأمريكيين، خاصة في المؤسسة العسكرية والصناعة العسكرية، الذين يؤمنون بعودة المسيح بعد قيام دولة إسرائيل. وسيندهش المرء إذا اطلع على سيرة الجنرالات في الجيش الأمريكي وسيجد أن أغبهم يؤمنون بروايات عودة المسيح، ووقع ما يسمى بالملحمة الكبرى. والبحث العميق في العلاقة بين السياسة والدين والمؤسسة العسكرية، سيجد المرء نفسه أمام معادلة صعبة: هل الصناعة العسكرية والاقتصاد في خدمة الدين أم العكس؟ وعموما، تعد معرفة الارتباط الوثيق بين الدين والسياسية في الولايات المتحدة محددا رئيسيا لمعرفة مستوى الدعم الذي تقدمه المؤسسة الأمريكية إلى إسرائيل. نعم، توجد مصالح استراتيجية عسكريا وسياسيا واقتصاديا بين إسرائيل والولايات المتحدة، مصالح تؤطرها الرؤية الاقتصادية والسياسية، ولكن الرؤية الدينية بدورها لها دور فعال، وأحيانا حاسم عندما يلتقي في رئاسة البيت الأبيض والقيادة العسكرية متدينون متطرفون.
وفي العالم العربي، نستغرب إلى مستوى نعتبر الحديث عن هذا العامل هو ترديد للخرافات، لكن الواقع شيء آخر، وبدون مفاهيم دينية من الصعب معرفة قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما سيترتب عن القرار من توتر حقيقي بين الديانات الثلاثة، وهو توتر تاريخي وأبدي.

Sign In

Reset Your Password