لا زالت قضية الجنرال عبد القادر آيت واعراب، المدعو حسن، المدير السابق لوحدة مكافحة الإرهاب بالمخابرات الجزائرية، يسيل الكثير من الحبر. كان صدور الحكم على الرجل بداية الجدل بدل أن يكون النهاية.
لم يعد هناك شك في أن القضية تدخل في نطاق الانتقام وتصفية الحسابات بين أجنحة ورجال نظام الحكم، وأن هذا الصراع بلغ درجة خطيرة مع قضية الجنرال حسن.
هناك على الأقل جناحان، الأول يمثله فريق الرئاسة الملتف حول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وامتداداته في أوساط المال والأعمال ووسائل الإعلام (حكومية وخاصة) والوسط الإداري والحزبي. وفريق آخر يتكون من الذين يشعرون بأنهم عارضوا دوماً، ولو بالصمت، وجود بوتفليقة في الرئاسة ولم يدعموه في مختلف الفترات الرئاسية التي ترشح لها منذ 1999، لأسباب أيديولوجية وسياسية وتاريخية.
عرّاب هذه المجموعة اللواء خالد نزار وزير الدفاع السابق وبعض الأوفياء لخطه في المؤسسة العسكرية وورثة عقيدته داخل نظام الحكم وخارجه. هذا المعسكر لديه أيضا امتدادات في الوسط السياسي والإعلامي والحزبي، لكنه بدأ يتراجع منذ الولاية الرئاسية الثالثة لبوتفليقة، ثم انكسر كبرياؤه مع «فوز» بوتفليقة بالرابعة.
إلى هذا المعسكر انضم اللواء محمد مدين، رئيس جهاز المخابرات في الفترة الأخيرة من حكمه قبل إقالته منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الملضي. كان الجنرال مدين بوضوح ضمن هذا المعسكر من 1992 إلى حين دخول بوتفليقة على الخط في 1999، ثم أصبح صعبا تحديد موقعه.
لا تبدو المعركة بين المعسكرين متكافئة، بل هي بوضوح في صالح طرف واحد أتى على الأخضر واليابس ويمسك بأغلب الخيوط والمفاتيح الآن، هو معسكر الرئيس الذي يشعر بأن الجزائريين مدينون له بتخليصهم من سطوة جهاز المخابرات بعد عقود طويلة.
لم يشتهر نظام الحكم الجزائري يوما بالحرص الشديد على تطبيق العدالة وإنفاذ القانون، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأبنائه والمنتسبين له، فكيف يحرص على ذلك كل هذا الحرص في قضية الجنرال حسن؟ كانت هناك في كل مرة طرق جاهزة لتسويات تحفظ مصالح الجميع ولا تخل بالتوازنات، أما القانون فلتصفية الحسابات عندما يتطلب الأمر. إذا برزت إلى السطح حملة رأي عام تطال أحد رموز الدولة، مدنيا كان أو عسكريا، فثق أن الأمر يتعلق بتصفية حسابات وانتقام وخطة للتشهير بالشخص وتدميره.
قبل الجنرال حسن، كان هناك الجنرال مصطفى بلوصيف الذي، في 1992، أُدين إعلاميا وشعبيا (أمام رأي عام جاهز سلفاً لتصديق ما يشاع عن رجال الحكم من اتهامات بالسرقة والنهب) قبل ان تدينه محكمة عسكرية وتصدر بحقه حكما بالسجن 20 سنة.
وبعده كان هناك الجنرال محمد بتشين (مدير المخابرات العسكرية سابقا) الذي تشكل حالته، عندما كان مستشارا للرئيس السابق اليمين زروال، نموذجا لقدرة النظام على إيجاد التسويات التي تحفظ مصالح الجميع وماء وجه الكل. كان يمكن أن يُخصّ الجنرال حسن بمعاملة كالتي لقيها بتشين، أي تسوية داخلية تنهي الخلافات وترضي كل الأطراف وتُبقي على الخلافات بين «العائلة»، لكن خصومه وخصوم معسكره اختاروا له، متعمدين، مصيرا مشابها لمصير بلوصيف لأن الهدف هنا ليس شخصه (كما كان الحال مع بلوصيف)، بل معسكر وتوجه يقوده مدير المخابرات المعزول الفريق محمد مدين.
من حيث يدرون أو لا يدرون، لم يضرب اصحاب الخيار الثاني الجنرال حسن وحده، بل أصابوا معه المؤسسة العسكرية الجزائرية مرتين على الأقل: مرة إذا كانت إدانة الرجل سليمة وقانونية، وأخرى إذا كانت عكس ذلك.
الكاتب السياسي الجزائري عابد شارف عبّر جيدا بالقول إنه إذا كانت التهم الموجهة للجنرال حسن بتدمير وثائق وعدم تسليم أسلحة، حقيقية وإدانته حقيقية، حقّ التساؤل كيف وثق به قادته كل هذه المدة ومنحوه مناصب عليا وكلفوه بمسؤوليات ومهمات خطيرة. في هذه الحالة، ألم يكن الأجدر محاسبة الذين وثقوا به ولم يكتشفوا أمره إلا متأخرين؟
أما إذا كانت التهم ملفقة والإدانة بلا تأسيس، فالصورة أخطر وحقّ التساؤل كيف يجرؤ قادة البلاد على معاملة الرجل الذي خدم وطنه بنزاهة وأدى مهامه باقتدار بهذه الطريقة المهينة، وكيف سيكون وقع ذلك على معنويات زملائه ورجاله وكل الجنود والضباط الميدانيين الذين يخاطرون بحياتهم في حرب تبدو بلا نهاية ضد الجماعات الإرهابية.
محامو الجنرال حسن بدورهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، صبّوا زيتا على النار بتصريحات إعلامية ـ سياسية ـ لم توفق دائما في الحفاظ على التوازن ومتطلبات العدالة. بعضهم قال إن الادعاء استعان بشهود إثبات مطعون في اهليتهم، أحدهم مهرب كبير ملمحين إلى أن مكانه الطبيعي السجن، وآخر عسكري أحاله الجنرال حسن على التقاعد.
بهذا الحكم وما تبعه من جدل وتجاذبات تكون الجزائر قد كسرت أحد التابوهات ودخلت في مغامرة غير ضرورية، لأن الخاسر الأكبر (أكثر من الجنرال حسن ذاته) في هذه المعمعة المعقدة هو الجيش الجزائري وقدسيته ومكانته المعنوية عند الجزائريين كقوة وحيدة منظمة ظلت عصية على الميوعة التي أصابت بقية أجسام ومكونات منظومة الحكم.
وبهذا الحكم يكون القضاء العسكري الجزائري قد تلقى ضربة قوية ستُحفظ طويلا في دفاتر تاريخه.
بهذا الحكم تنفرد الجزائر لتكون الدولة الوحيدة في العالم التي تلقي بقائد مكافحة الإرهاب في مخابراتها في السجن بعد خدمات جليلة كثيرة إذا صدق ما يُكتب عن الجنرال حسن في صحافة المعسكر الداعم له وما ينشره محاموه.