إن تكثير سواد الشكايات ضد بعض الصحفيين في الآونة الأخيرة على تعددها وتنوعها غير قادرة على التمييز بين قواعد الحكامة الجيدة للمرافق العمومية وبين تقديس الأشخاص وتحصينهم من النقد بالمخالفة للدستور، وغير معتبرة لما استقر عليه القضاء المقارن بكون من لا تتسع نفسيته للنقد أن يلزم بيته وألا يقبل بأن يكون مسؤولا، وما خلص إليه قرار شهير لمحكمة النقض الفرنسية بأنه ﻻ يمكن لمن يتولى المناصب و المسؤولية في تسير الشأن العام أن يحصن سياساته من النقد حتى لو تضمن عبارات تقدح في كفاءته و قدرته على حسن اﻻدارة.
حينما تفرط الإدارة في التشكي فإنها تعبر عن حالة القصور في نمط تفكيرها وآليات اشتغالها ،وتبين أنها فعلا تحتاج للمواطن أو للصحفي ليسير الشأن العام بدلا عنها لتنكب هي بمتابعة شكاياتها وتنقلب المعادلة لأن الصحفي أو المواطن لن يجد من يستقبل شكايته،فالأزمة أزمة قيم ،لأن المسؤول الاداري يعتبر أن الإدارة في ملكه وكل نقد هو موجه له شخصيا ويمس كرامته ويقدح فيه ،ويبين فشله ،دون أن يعي ،بأن المرفق هو ملك للمواطنين ويندرج في إطار تسيير الشأن العام الذي يربط بين المسؤولية والمحاسبة ،وأن النقد عملية صحية للبناء والتطوير،وهو من مستلزمات حرية الرأي والتعبير والبحث والتلقي ،وهو أيضا من أسس الديمقراطية السليمة فهو غير مقصود بذاته وإنما مجرد آلية لتوفير المعلومة وتخليق المرفق العمومي وضمان شفافيته وحق الولوج إليه ،وتحقيق حكامة جيدة لصالح المواطن،فالإدارة ملزمة بتكريس الحق في الوصول إلى المعلومات باعتباره حقا من حقوق الإنسان-الفصل 27 من الدستور- ومظهرا لحرية الرأي التي يقتضيها وجود مجتمع المعلومات الديمقراطي اللازم لتشكيل رأي عام حر ومتنور،وملزمة أيضا بالإنصات والتواصل والانفتاح على الإعلام بكل تواضع لا إقامة حدود وهمية للانغلاق والعداء .
إن القضاء المغربي والمقارن استقر على أن نقد الموظف العام يكون في أعماله وليس في شخصه ، مؤكدين أن الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة باعتبار أن هذه الأعمال من الشئون العامة التي لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة في أدائها والالتزام بضوابطها ومتطلبتها وفقا للقانون مقصورا على فئة من المواطنين دون أخرى، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحي التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون في مجال ممارستها، حقا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التي يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسئولية العامة على الوجه الأكمل، ولأن الوظيفة العامة وما يتصل بها من الشئون العامة لا تعدو أن تكون تكليفا للقائمين عليها. والتزامهم الأصلي في شأنها مقصور على النهوض بتبعاتها بما لا مخالفة فيه للقانون .
وحق الشخص في تلقي المعلومات يشمل حتى المعلومات التي لا ترتاح إليها الإدارة ،لأنه في إطار المجتمع الديمقراطي من حق الشخص أن يطلع على كل وجهات النظر ،وكل الصيغ حول الاحداث ليستطيع الخروج برأي متكامل .
وإذا كانت الإدارة تعتبر أن بعض الآراء والمعلومات غير دقيقة فإنها تملك حق الرد والتصحيح لكن لا يحق لها فرض الرأي الوحيد ،أو فرض الصمت ،أو ترهيب الصحفيين بشكايات كيدية لفرملة دوافع واتجاهات التغيير لديهم حتى تجد أصوات التفاهة منفدا حقيقيا للعبور بأمان أو على الأقل تعبد الطريق لهم للتمجيد والتصفيق،فالصحفي لم يبرم عقد تصفيق مع الإدارة ،بل أبرم مع المواطن وفقا للدستور عقد الرقابة والمحاسبة ونقل المعلومة لأن حرية الصحافة طبقا للفصل 29 من الدستور مضمونة ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية .
ويمكن للصحفي أن يرفع دعاوى المسؤولية المدنية عن التشكي غير المشروع الكيدي ،كما يمكنه أن يرفع شكاية بشأن الوشاية الكاذبة أو إهانة الضابطة القضائية بصنع جريمة خيالية.
وأخيرا يمكن القول أن من ينزعج من النقد ،فليلزم بيته ،ومن يهوى التمجيد والشكر،فلينظر في المرايا ليرى نفسه، وليبرم عقود تصفيق خارج نظام الصفقات العمومية، وبعيدا عن الإدارة والصحافة والمواطن .