حاكم الجزائر المُعلن عنه هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فهو الرئيس المنتخب لولاية رابعة، على الرغم من المرض الذي أقعده وأجبره على حكم بلاده لولاية رابعة من فوق كرسي متحرك. لكن، هل فعلاً في وسع الرئيس المريض الذي تجاوز عمره نيّفاً و77 عاماً، أن يؤدي مسؤولياته كاملة، كما يفرضها عليه منصبه رئيساً لبلاده؟ ليس العائق الوحيد أمام بوتفليقة حالة العجز الجسدي التي يعاني منها، فهذه حالة بشرية، تذكّرنا بضعفنا الجسدي والإنساني، وقد سبق لرئيس أميركا التاريخي، فرانكلين روزفلت، أن حكم أقوى دولة في العالم من كرسي متحرك، وفي فترة حرجة، زمن الحرب العالمية الثانية.
مشكل بوتفليقة أنه أصبح رهينة للمنصب الذي اعتقل نفسه داخله منذ 15 عاماً. فمنذ إعادة انتخابه لولاية رابعة لم يخاطب شعبه علانية إلا مرة واحدة. كان ذلك بمناسبة حفل تنصيبه، عندما قرأ بصعوبة خطاب التنصيب. فلا أحد في الجزائر، مع استثناء الحاشية المقربة من الرئيس، يعرف حقيقة وضعه الصحي. وإعادة انتخابه، بعد حملةٍ انتخابيةٍ كان هو الغائب الكبير عنها، والمنتصر الكبير فيها، كانت أكبر إهانة لبلاد ثورة المليون ونصف مليون شهيد.
اليوم، وفي كل مرة يتسرب خبر عن نقل الرئيس إلى المستشفى، تعود الشائعات، بقوة، وهي التي سبق أن قتلت الرئيس أكثر من مرة، ويطرح السؤال بحدّة وبإلحاح، من يحكم الجزائر؟ من يوجد على كرسي متحرك ليس هو الرئيس المقعد والمريض، وإنما بلد بكاملها اسمها الجزائر، وضعها من يتحكمون في خيوط الحكم فيها من وراء الكواليس على كرسي متحرك، يوجهونها لمصالحهم كيفما شاءوا.
هذا الوضع الملتبس للرئيس الغائب الحاضر، الرئيس الذي يقرر في مصير ملايين الجزائريين من فوق كرسيه المتحرك، أو سرير مرضه، أو من وراء زجاج غرف الإنعاش في مستشفيات فرنسية، مكتوب له أن يستمر حتى عام 2019، تاريخ نهاية الولاية الرابعة لبوتفليقة. وذلك في حالة إذا لم يقرر حاكمو الجزائر الفعليون أن يمددوا للرئيس لعهدة خامسة! وليس ذلك مستبعداً على من يصرون على إهانة ذكاء الجزائريين.
يتعلق الأمر، فعلاً، بمسرحية عبثية، لكن، هذه المرة، في عالم السياسة الذي ينتمي إلى الواقع، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة، وفي الوقت نفسه العبقرية الخارقة لمخرجي هذه المسرحية العبثية التي تنتمي إلى عالم اللامعقول، لكنها تجسد على خشبة الواقع العنيد.
ألم يكن من الأولى على من يدفعون الكرسي المتحرك للرئيس المريض أن يريحوا الجالس فوقه من هذه الإهانة المزدوجة التي يعرّض لها نفسه وتاريخه، والأكثر من ذلك، يعرّض لها بلده وشعبه؟ فالصور واللقطات القليلة التي سمح مخرجو مسرحية كوميديا الظلام هذه ببثها، أو نشرها على العموم، تظهر رجلاً منهك القوى، بعينين منطفئتين وساهمتين، بالكاد يحرك إحدى يديه. منظر يثير الشفقة والسخط في الوقت نفسه لدى الجزائريين. الشفقة على الرجل المريض الذي يصر من أجلسه على الكرسي المتحرك على تعذيبه وإهانته، والسخط على إصرار من يقف وراء الكرسي المتحرك على إذلال الجزائريين وسب ماضي ثورتهم المجيدة.
أرادت آلة دعاية الحكم في الجزائر أن تحول بوتفليقة، كآخر رموز الثورة الجزائرية، إلى أسطورة، وتقديمه للجزائريين الرئيس الضرورة والرجل المنقذ، وحتى بعد أن تحولت الأسطورة إلى مجرد خرافة مقيته، مازال هناك من يصر على الاستخفاف بذكاء الجزائريين، مرة عندما يخفي عليهم حالة وضع رئيسهم الصحي، وأخرى عندما لا يخبرهم بخبر نقله خلسة إلى مستشفى فرنسي، ومرات عديدة عندما يجعلهم لا يعرفون من يحكمهم فعلا من وراء الكواليس.
هناك من يقول إن الهدف من تمطيط مسرحية العبث هذه هو ربح الوقت! ألم يُخلق مسرح العبث نفسُه للتهكم على الوقت، والسخرية من كيفية تبديده، لتحويله، هو الآخر، إلى عبث يحرض الممثلين والمتفرجين، على حد سواء، للانتقام منه بالانتحار، جواباً أخيراً على الفراغ الذي يخلقه من حولهم!
هذا الوضع العبثي لخصه جزائري لمراسلة صحيفة لوموند الفرنسية، في مقال لها كتبته من الجزائر، بعد العودة الأخيرة للرئيس بوتفليقة من مستشفاه الفرنسي، عندما قال لها إن “الجزائر تواجه حالياً وضعية فيلم كاجيومشا لكاتب السيناريو الياباني كوروساوا”، حيث “يتمّ تعويض حاكم ميّت بشبيهه، ويحمل النعش سنوات، قصّة لإيهام الشعب أنّ الميت ما يزال يحكم”.
وفي مقابل كل هذا العبث، وما يولده من مشاعر القلق والاستياء والارتياب والخوف من المستقبل الغامض، وهذه هي العبارات التي وصفت بها الصحافية الفرنسية الوضع في الجزائر، يرد النظام في الجزائر على كل هذه المشاعر المختلطة بالتهديد إما “بوتفليقة أو الفوضى”. أما بوتفليقة فما هو إلا بشر سيموت ذات يوم، لذلك، فإن ما يزعج الجزائريين هي الفوضى التي سيحدثها السقوط المذهل لهذا الهدوء الخادع!
لكن، ما لا يمكن التنبؤ به، هو الفراغ الذي سيحدثه الانهيار الكبير المنتظر، لأنه لا أحد يستطيع أن يقدر حجمه. أما من سيملؤه، فذلك هو السؤال الذي لا يجرؤ اليوم جزائريون كثيرون على طرحه، إما خوفاً من النظام أو خوفاً عليه!