ابعت الخطاب الذي القاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس مساء الثلاثاء في اجتماع القيادة الفلسطينية لعلي اجد فيه موقفا شجاعا يرفع من معنويات الذين يواجهون المجازر الاسرائيلية ويدافعون عن كرامة الامة في قطاع غزة، ولكني اصبت بخيبة امل اخرى اكبر من كل خيبات الامل السابقة، فقد جاء الخطاب “التاريخي” عرضا مملا لجولة الرئيس ومقابلاته مع بعض الزعماء والمسؤولين من اجل وقف اطلاق النار، وكأن العدوان يستهدف هنودا حمرا في غابات الامازون.
اعتقدت ان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي القاه ظهر الاربعاء سيكون مختلفا، لانه يأتي بمناسبة ثورة 23 تموز (يوليو) عام 1952 التي ارخت لفجر مصري وعربي جديد غّير كل المعادلات السياسية والفكرية في المنطقة العربية باسرها، وارخ لدور مصري ريادي وقيادي حظي باحترام العالم باسره، لتبنيه الوقوف في خندق القضايا الانسانية والسياسية العادلة، والانتصار للمظلومين سواء داخل مصر او خارجها، ولكن خيبة املي الثانية كانت اكبر من الاولى، خاصة ان العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة “مسقط رأسي” لم يستغرق في الخطاب الا ست دقائق.
***
الرئيس السيسي قال ان مصر قدمت اكثر من مئة الف شهيد دفاعا عن القضية الفلسطينية، واضعاف هذا الرقم من الجرحى، وطالب بان لا “يزايد” عليه احد في هذا المضمار، ونحن نتفق معه كليا في الجزئية الاولى ونختلف معه في الثانية المتعلقة بتعبير “المزايدة” التي ما كنا نتمنى على كاتب خطاب الرئيس ان يستخدمها في هذا السياق.
جميع الحروب التي خاضها الجيش المصري جاءت بالدرجة الاولى دفاعا عن مصر وامنها القومي وسيادتها الوطنية في مواجهة مشروع اسرائيلي توسعي يهدد هذا الامن، ويريد الانتقاص من هذه السيادة، ومن المؤسف ان الدور المصري القيادي والريادي تراجع الى حدوده الدنيا منذ ان رفعت قيادات مصرية سابقة التي ورثت الحكم بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر الرايات البيضاء، وتقوقعت داخل حدودها، وما الاخطار التي تهدد مصر حاليا التي تحدث عنها الرئيس السيسي حاليا الا نتيجة لهذا التقوقع، والتخلي عن الدور القيادي الريادي الذي افقد مصر هيبتها ومكانتها، واوصلها لما هي فيخ من ازمات.
مطالبنا من مصر العظيمة تواضعت الى درجة فتح معبر امام الجرحى والمرضى، وان تكون وسيطا محايدا نزيها، ولم نعد نطالب، او حتى نجرؤ على المطالبة، بارسال وحدات من الجيش المصري وطائراته ودباباته الحديثة للتصدي للعدوان الاسرائيلي، والانتصار للاطفال والرضع الذين تذبحهم صواريخ الطائرات والدبابات الاسرائيلية، وتدمر بيوتهم فوق رؤوس قاطنيها، وتقصفهم من البر والبحر والجو، وقادة الجيوش العربية يتفرجون، بل ويديرون وجوههم الى الناحية الاخرى حتى لا يرون اشلاء جثامين الشهداء الاطفال، بل ربما انعدمت النخوة والشهامة عند معظمهم ان لم يكن كلهم.
الرئيس السيسي قال انه سيقف مع الاشقاء الخليجيين في مواجهة اي عدوان ايراني يمكن ان يستهدفهم، وسيرسل الجيش المصري بكل وحداته وفرقه لاداء واجباته تجاه اهله واشقائه، فالمسألة فقط “مسافة السكة”، وهذا موقف وطني واخلاقي يحمد عليه، ولكن لماذا لا نرى الموقف نفسه تجاه اهل قطاع غزة الذين يتعرضون لعدوان حقيقي وليس لعدوان ايراني “افتراضي” وبصورة وحشية.
بحثت عن كلمة واحدة في خطاب الرئيس السيسي الرجل المؤمن الذي يؤدي الفروض جميعا في اوقاتها تدين العدوان الاسرائيلي ووحشيته وقتله للاطفال وتحذره من التمادي، وتنتصر للعزل المحاصرين، ولكني لم اجد هذه الكلمة او العبارة، فحتى الكلام، ونحن لا نتحدث هنا عن الافعال، باتت عملة نادرة لان العدو اسرائيلي.
ندرك جيدا ان هناك عداءا مستفحلا بين الرئيس السيسي وحركة “حماس″ بسبب تأييد الاخيرة لحركة الاخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، ولكن ليس جميع اهل القطاع ينتمون الى هذه الحركة، وان انتموا فهذا حقهم، مثلهم تماما مثل اكثر من نصف الشعب المصري، مثلما رأينا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومن انتخب الرئيس مرسي ليس حركة حماس ولا ابناء قطاع غزة وانما المصريون انفسهم.
سبع سنوات ومليونا فلسطيني تحت الحصار يعيشون في ظروف صعبة وغير انسانية، وازدادت صعوبة منذ وصول الرئيس السيسي الى الحكم في العام الماضي، سواء بشكل مباشر او من خلف ستار، فما العيب ان يطالب قادة الفصائل الفلسطينية التي تتصدى للعدوان وحركة حماس من بينها، برفع الحصار وفتح المعابر، وحرية الصيد والزراعة واعادة تشغيل المطار والميناء؟ فهل هذه المطالب الانسانية تشكل خطرا امنيا على الجار المصري، والمطالبة بها انتقاص من مصر وسيادتها وهيبتها؟
تمسك فصائل المقاومة بهذه المطالب قبل وقف اطلاق النار لا يعود الى عدم الثقة في مصر، وانما لعدم الثقة بالاسرائيليين، فها هو الرئيس عباس يتفاوض منذ عشرين عاما ولم يحصل على تنازل واحد ولو صغير من الاسرائيليين ولم ينجح في منع بناء شقة واحدة من المستوطنات، وها هي امريكا تضمن اتفاقات عديدة دون ان تلزم اسرائيل بها، عندما تخترقها وترمي بها عرض الحائط “فالمقروض يخاف من جرة الحبل” مثلما يقول المثل العربي المعروف، لماذا لا تكون مصر العظيمة داعمة لهذه المطالب وسندا لها؟
الرئيس السيسي طالب حركة “حماس″ دون ان يسميها، باجراء مراجعة لمواقفها، ولكنه هو نفسه اولى بهذه المراجعة لسياساته تجاه ابناء القطاع الذين يكنون كل الحب والتقدير والعرفان بالجميل لمصر وشعبها، فهذا الموقف العدائي من هؤلاء غير مبرر وغير مقبول على الاطلاق، فهل من المنطقي ان يتشاور الرئيس السيسي حول بنود مبادرته مع الطرف الاسرائيلي المعتدي ولا يتشاور مع فصائل المقاومة، او حتى يعرضها عليها مباشرة وليس عبر وسائل الاعلام، وجمعيها تكن لمصر اسمى آيات التقدير والاحترام.
***
الرئيس السيسي يفتخر بانتمائه الى ارث الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويؤكد بكل الطرق والوسائل انه يسير على نهجه وسياساته، وهذا امر جميل، ولكن نسأله وبكل احترام انه لو كان عبد الناصر هو رئيس مصر حاليا هل يصمت على هذا العدوان، بل هل كانت اسرائيل ستجرؤ على ارتكاب مجازرها هذه؟
نعم مصر مهددة وتواجه اخطارا كبيرة من كيانات صغيرة وكبيرة، ولكن حتى تتحصن في مواجهة هذه الاخطار لا بد من اتباع سياسات اكثر تواضعا مع الضعفاء، واكثر صلابة وقوة في وجه المعتدين، سياسات توحد مصر اولا والعرب جميعا، فقراء واغنياء، خلف مصر وشعبها وقيادتها في مواجهة هذه الاخطار.
مصر تكبر بالقضايا الكبرى، وتصغر وتنكمش بالصغائر منها، ولم تصل الى مكانتها الا بتبنيها لقضية فلسطين وانتصارها لها ولاهلها، فالعدالة كل لا يتجزأ، والانتصار للعدالة الداخلية لا يكتمل الا بالانتصار لقيم العدالة لشعوب جارة مثل الشعب الفلسطيني.
ختاما نتمنى على الرئيس السيسي ان يتصرف تصرف بعض رؤساء دول امريكا اللاتينية الذين طردوا السفراء الاسرائيليين احتجاجا، وان يوقف حملات التحريض الاعلامي البشعة ضد اهلنا في غزة وهم في مواجهة العدوان ويذهب بعضها الى حد حث نتنياهو على المزيد من المجازر في حقهم، وكأن هؤلاء احتلوا مصر وحاصروا شعبها وجوعوه وذبحوا اطفاله، ومنعوا عنه الدواء والغذاء، والذي اوقف برنامج باسم يوسف يستطيع ان يوقف هؤلاء بجرة قلم، لانه يعرف جيدا من يقف خلف حملات التحريض البشعة هذه التي تسيء لمصر وتراثها المشرف قبل ان تسيء للفلسطينيين.
نريد لمصر وشعبها الطيب كل الازدهار والاستقرار دائما، ولكننا نود التذكير بان مصر عاشت افضل نماذج هذا الاستقرار والازدهار والعدالة الاجتماعية عندما انحازت للمظلومين داخلها وفي الوطن العربي والعالم بأسره.