يعتبر إصدار كتاب عن التطورات السياسية الدولية في الوقت الراهن مجازفة حقيقية بحكم المستجدات المتسارعة بشكل مثير عكس العقود الماضية وخاصة إبان الحرب الباردة حيث كان إيقاع العلاقات الدولية محكوم بشروط هذه الحرب التي دامت طويلا ثم ما اصطلح عليه “عالم القطب الواحد” بهيمنة الولايات المتحدة على صنع القرار العالمي. ورغم هذه الصعوبات، يحاول كتاب “الرهانات الدولية الجديدة، الحرب أو السلام” من تأليف وزير الخارجية الفرنسي السابق رونالد دومان والدبلوماسي شارلز كريتيان استقراء التحولات الجارية في العالم بتركيز كبير على الأوضاع في العالم العربي، بشقيه، الشرق الأوسط وما يجري في سوريا، والمغرب العربي بما يجري في المغرب وتونس والجزائر وينتهي الى أن الحرب السورية وضعت حدا للهيمنة الغربية.
وينطلق الكتاب، الصادر مؤخرا عن دار النشر شيرش ميدي “Cherche Midi، من زاوية معالجة فرنسية تهم مستقبل الدبلوماسية الفرنسية في العالم ومنها البحر الأبيض المتوسط، ولهذا لا يتردد في توجيه النصح والانتقاد في آن واحد للرئيس فرانسوا هولند ووزير خارجيته لوران فابيوس بضرورة التأقلم مع التطورات التي يشهدها العالم بصعود قوى جديدة في العالم مثل الصين والهند ومنطقة أمريكا اللاتينية.
الكتاب يعتمد على معطى أساسي في فهم تشكيل وضع جيوسياسي جديد في العالم حاليا ويتجلى في طموح روسيا تحت قيادة فلادمير بوتين باستعادة مجدها العسكري والدبلوماسي. ويستعرض الكتاب مقومات السياسة الروسية الجديدة ليصل الى الاهتمام الكبير بما يجري في البحر الأبيض المتوسط ورغبة موسكو في إيجاد نفوذ لها في هذه المنطقة الهامة استراتيجيا من العالم.
وعلى ضوء الاهتمام الروسي، يفسر “الدراما السورية” واستمرار هذه المأساة. في هذا الصدد، يشرح الكتاب عدم التدخل العسكري الغربي في سوريا لسببين، الأول وهو الموقف الروسي الذي حول من سوريا مسرحا لحرب باردة في العلاقات الدولية، ويقول يكفي معرفة أهمية قاعدة طارطوس للغواصات الروسية لمعرفة ما يمكن أن يقدم عليه الكرملين من أجل دمشق.
والعامل الثاني هو هام جدا أن كل تدخل عسكري وإن رخصت له الأمم المتحدة سيقف مرعبا عند مشاهدة خريطة الشرق الأوسط، فسيرى سوريا سياسيا وجغرافيا وسط منطقة تعتبر برميل بارود حقيقي بوجود حزب الله ثم التنافس الإيراني-السعودي في نسخته الشيعية-السنية والوضع الهش في العراق والحدود المفتوحة مع تركيا التي يصفها بغير النموذجية واستمرار خطر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إذ كل تدخل عسكري سيحول المنطقة الى بركان من الصعب السيطرة عليه.
ويستحضر الكتاب سيناريو فشل التدخل الغربي في أفغانستان بعدم القضاء على حركة الطالبان وسقوط البلاد في فوضى، ويتساءل، كيف سمح الرئيس الفرنسي هولند لنفسه بالحديث خلال أغسطس/آب 2013 عن التدخل العسكري في سوريا وتجرية أفغانستان ماثلة أمام عينيه؟
ويكتب عما يصفه بتجاوز نظام بشار الأسد الخطوط الحمراء باستعماله الأسلحة الكيماوية أن العالم يشاهد “مأساة شعب ولا يمكن تبرير ما يقوم به الأسد، لكن في الوقت ذاته، فالثورات تسقط في يد الحركات الإسلامية التي تثير قلق العالم المتحضر”.
وينتهي الكتاب الى خلاصة مفادهعا أن الأزمة السورية شكلت نهاية الولايات المتحدة والغرب دركيا للعالم بسبب موقف موسكو وكذلك الرأي العام الغربي المناهض لأي تدخل عسكري غربي. وهذا التطور هو الذي يجعل إسرائيل بعد خيبة أملها في الغرب، تعتمد على نفسها وتزيد تعنتها في عدم التنازل عن الأراضي للفلسطينيين.
وسط كل هذه التطورات، ترغب واشنطن، بعد الانقلاب الذي نفذه عبد الفتاح السيسي، في الإبقاء على علاقات هامة مع مصر لأنه لا يمكن نهائيا تنفيذ أي مشروع بدون القاهرة في الشرق الأوسط. ومن جانبها، تخطب موسكو ود القاهرة أملا في استعادة نفوذها على شاكلة ما كان عليه الأمر في عهد نظام جمال عبد الناصر. ويبرز الكتاب الدور المحوري للعربية السعودية في كل معادلة، فرغم دعمها للحركات السنية بما فيها المسلحة، تستمر القوى في مخاطبة ودها. ويعالج دور الأنظمة الملكية في الخليج وأساسا الإمارات العربية المتحدة وقطر، فكل دولة راهن على رسم مكانة لها في عالم عربي متغير وتكون مخاطبا للغرب في قضايا وملفات، وتعتمد في استراتيجيتها على ثرواتها الضخمة واستثماراتها في العالم ومنها الغرب. ويخصص الكتاب حيزا هاما للعلاقة التي تجمع قطر وفرنسا على جميع الأصعدة، وكيف وصل الأمر بفرنسا الى قبول قطر في منظمة الفرنكفونية وتحول الدوخة الى قبلة للعديد من السياسيين الفرنسيين.
ويعترف الكتاب بذكاء طهران في اللعب على تطورات الشرق الأوسط والتأقلم معها لاسيما بعد اختيار حسن روحاني رئيسا والذي رفع شعار الحوار مع الجميع والرهان على الوساطة السياسية لحل النزاعات.
ويحط الكتاب في المغرب العربي التي تعتبر منطقة نفوذ فرنسي خلال أزيد من قرن بسبب الاستعمار ثم الارتباط التالي لهذه الدول بسياسة باريس. وينصح الكتاب رئاسة فرنسا ودبلوماسيتها بتجنب فرض إملاءات على التونسيين، منتقدا موقف باريس خلال اندلاع الربيع العربي وانحازيها للدكتاتور ين العابدين بن علي. الكتاب يؤكد “حق التونسيين في رسم مستقبلهم بكل حرية واعتدال”.
ويعالج من النظرة نفسها الوضع في المغرب، داعيا الى عدم اعتبار المغرب امتدادا لعطل الفرنسيين بل بلدا ذو تاريخ وتقاليد وأن الاستعمار انتهى منذ مدة. ويقول “لا ننسى أنه وراء أسوار الرياضات (الإقامة السياحية) الفخمة في مراكش يوجد فقراء يبحثون عن الأكل في قامامات الأزبال ويفتقدون للماء الذي يتم به ملء المسابح في المدينة”. ويبرز أن الملك محمد السادس واعي بضرورة إصلاح عميق أخذا بعين الاعتبار التطلعات الديمقراطية والعطش لعدالة اجتماعية لكي يحجز لنفسه مكانة في تاريخ البلاد، هذا البلد الذي كان أن يتحول الى جمهورية غذاة الاستقلال بسبب الاضطرابات الاجتماعية. ويلمح الى أن الاضطرابات الاجتماعية قد تنهي الملكية في المغرب.
ويتوقف مطولا عند الجزائر، وتجد الجزائر نفسها، وفق رولان ديما وشارلز كريتيان، منذ سنة 2012 وسط دوامة من التطورات تمس حدودها في الجنوب بسبب الأوضاع الأمنية في مالي وتنضاف إليها الأوضاع اليبية المتفجرة في ظل سعي السلطات للحفاظ على التمساسك الاجتماعي والسياسي الداخلي. ويبرز الكتاب اقتراب الصين كثيرا من الجزائر ثم الرهان الكبير لموسكو على هذا البلد المغاربي للحصول على عدم لوجيستي في البحر الأبيض المتوسط، ضمن استغلالها للربيع العربي وأساسا الملف السوري للعودة الى المتوسط واستعادة سياسة حقبة القيصر.
مقال حول المغرب في الكتاب: الملك محمد السادس عليه تسريع وتيرة الإصلاحات ليدخل الى التاريخ