في أرقى المدارس العسكرية الأمريكية ويست بوانت في نيويورك، أعلن الرئيس باراك أوباما يوم 28 مايو الماضي تخلي الولايات المتحدة عن توظيف القوة العسكرية في الملفات الدبلوماسية “إلغاء الطابع العسكري عن السياسة الخارجية” وتفضيل وتغليب الدبلوماسية والحوار. وهذا توجه جديد في رؤية واشنطن للعالم، لكن يبقى التساؤل، هل هو تحول مبني على قناعات سياسية حقيقية أو تحول برغماتي فرضته التطورات الدولية ببروز قوى مثل الصين واستعادة أخرى لهيبيتها مثل روسيا، حيث لم يعد أمام البيت الأبيض هامشا كبيرا للمناورة عكس العقدين الأخيرين.
خطاب كلية ويست بوانت هو الإعلان الرابع من نوعه للرئيس الأمريكي منذ وصوله الى البيت الأبيض محاولا إحداث تغيير ملحوظ في السياسة الخارجية للبيت الأبيض بدون درجة قطيعة، ولكنها دينامية قد تكون دالة مستقبلا على تغيير تدريجي في الدبلوماسية الأمريكية إذا توفرت لها شروط لا توجد الآن.
وأول مبادرة نحو تغليب الحوار في السياسة الخارجية الأمريكية كان خطاب بارك أوباما في القاهرة خلال يونيو 2009 الذي وجهه الى المسلمين لفتح صفحة جديدة من التفاهم بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، محاولا التخلص من إرث حرب أفغانستان والعراق وسجن غوانتانامو التي جعلت صورة الولايات المتحدة سيئة في أعين الرأي العام الاسلامي. لكن أوباما فشل في ترجمته الى واقع ملموس، فقد صادف الربيع العربي-الأمازيغي، وتردد في الوقوف بشجاعة الى جانب القوى الديمقراطية في مواجهة الدكتاتوريات.
وجاء الاعلان الثاني أو المبادرة الثانية في مسار تغليب الدبلوماسية على القوة العسكرية خلال أبريل 2011، عندما أعلن أوباما تركيز السياسة الخارجية الأمريكية نحو منطقة الهادي، فهي مستقبل العالم اقتصاديا وسياسيا، تضم أكبر تكتل بشري وأكبر اقتصاديات العالم. والتوجه نحو الهادي تطبعه السياسة السلمية أكثر من العسكرية رغم نشر البنتاغون سفن حربية والتوتر مع كوريا الشمالية الذي هو من مخلفات الماضي. ومبدأ السلمية يعود الى نوعية المنطقة التي تضم قوى كبرى مثل الهند وروسيا والصين وأندونيسيا، لا يمكن للبنتاغون السيطرة عليها والتحكم فيها بل ينفعه معها فقط الحوار.
وتجلت المبادرة الثالثة في إعلان هذا الرئيس المنتمي الى الحزب الديمقراطي خلال مايو من السنة الماضية “نهاية الحرب الشاملة ضد الإرهاب بمفهومها العسكري”. وقال في هذا الصدد “هذه الحرب، مثل باقي الحروب، يجب أن تنتهي، هذا ما ينصح به التاريخ وهذا ما تطالب به الديمقراطية”.
والمبادرة الرابعة خلال الأسبوع الماضي، ألقى أوباما خطابه الذي يتحدث فيه عن غلبة الدبلوماسية على القوة العسكرية مستقبلا. وتناول ملفين شائكين بصيغة الحوار والتفاهم، الأول وهو الملف النووي الإيراني قائلا “مازالنا بعيدين عن اتفاق شامل مع إيران، ولكن هناك إمكانيات للتوصل إليه”. وفي ملف ساخن آخر وهو الأوكراني قال أوباما “الأزمة الأوكرانية لا تعني العودة الى الحرب الباردة مع روسيا”. وبنى باراك أوباما أطروحته على أهم ما جاء في الخطاب وهو ما يلي “منذ الحرب العالمية الثانية، بعض أخطاءهنا المكلفة ليست نتاج ترددنا في التدخل بل بسبب تسرعنا في خوض غمار عمليات عسكرية دون التفكير في النتائج المستقبلية”.
وسياسيا وفكريا، تبدو مبادرات باراك أوباما معزولة عن تاريخ الفكر السياسي العسكري الأمريكي بما فيها خلال الثلاثة عقود الأخيرة. وتمارس مراكز الدراسات الاستراتيجية تأثيرا ملحوظا في السياسة الخارجية، وهي مراكز أنتجت عبر تاريخ الولايات المتحدة فكرا قائما على التدخل في شؤون الآخر وهمشت المنادين بالسلام. وارتهنت سياسة البيت الأبيض الى بعض النظريات السياسية-العسكرية.
وفي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات الذي يصادف نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، أعلن البيت الأبيض أطروحة “النظام العالمي الجديد”. وهي أطروحة مستمدة من نظرية فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”، بشرت بغلبة النموذج الليبرالي-الرأسمالي اقتصادا وسياسية. والنظام العالمي الجديد قائم على مفهوم نشر الليبرالية والديمقراطية، وهو حلقة ثانية لمفكرين من القرن الثامن عشر والتاسع عشر نادوا بنقل الحضارة الغربية الى ما كانوا يعتبروه “العالم غير المتحضر”، وهي العماد الفكري للحركات الاستعمارية الكبرى.
سنوات بعد فوكوياما، سيعلن سامويل هانتنغتون نظرية “صدام الحضارات” مركزا على مجموعة منها وعلى رأسها الدول الإسلامية. هذه النظرية كانت ترجمة لأفكار انتعشت وسط الإدارة الأمريكية بعد نجاح الثورة الإيرانية. ويبقى العنوان المعبر عنها هو وزير الدفاع الأمريكي ديك تشيني عندما قال في اجتماع للحلف الأطلسي خلال سنة 1990 في ميونيخ الألمانية “يجب اتخاذ الإسلام عدوا مستقبلا”. وسمح له منصبه المستقبلي نائبا للرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بتطبيق هذه المفاهيم في الحرب ضد الإرهاب بعد 11 سبتمبر.
والنظرية الثالثة التي لم تحظى باهتمام كبير هي “العودة التاريخ ونهاية الأحلام” التي صافها المفكر روبر غاكان منذ سنوات بتشديده على اتفاق مقدس جديد بين الدول الغربية لمواجهة باقي الحضارات التي يكاد يصفها بالبربرية.
الفكر السياسي الأمريكي لم ينتج نظريات السلام، فالتاريخ يحتفظ بنظريات الحرب وليس السلم، فلا أحد يعرف الفيلسوف ويليام جيمس في نهاية القرن التاسع عشر الذي نادى بدعم حرية تقرير الشعوب لمصيرها. واعتمد الفكري السياسي العسكري الأمريكي منذ نشأته على أطروحة/نظرية “بيان المصير”، وتتلخص في ثلاثة محاور مرتبطة ببعضها البعض ومفادها: “أفضلية مؤسسات الولايات المتحدة ومواطنيها” ثم “نشر هذه المؤسسات في العالم وتحويله الى صورة من الولايات المتحدة” ثم “تكليف الله الأمريكيين بهذه المهمة”. وهذه الرؤية السياسية ترقى الى مستوى العقيدة الدينية، ومستوحاة من الانجيل، ولهذا يغلب الطابع الديني على السياسة الأمريكية بشكل ملفت.
وعندما يطغى هذا النوع من التفكير السياسي المغلف بالديني في الدولة، وتمتلك هذه الأخيرة وسائل عسكرية جبارة، لا مفر من سلسلة من الحروب لأنها تعتقد في تطبيق رسالة سماوية. ونتيجة هذا التصور، فتاريخ الولايات المتحدة “العالم الجديد” في علاقاتها “بالعالم القديم” هي علاقة توتر وحروب مستمرة منذ تدخلها لأول مرة في العالم القديم، وكان في ليبيا في القرن التاسع عشر أساسا وانتهاءا بالعراق خلال العقد الماضي مرورا بالحروب العالمية الأولى والثانية والباردة وكوريا والفيتنام ومناطق متعددة من أمريكا اللاتينية وأفغانستان.
في الوقت ذاته، لا يمكن عزل التوجه الجديد، قولا وليس فعلا، لدبلوماسية البيت الأبيض عن التطورات الدولية، فالعالم ينتقل نحو التعدد القطبية أو “عالم متعدد الأطراف”. ويشكل النزاع السوري والنزاع الأوكراني منعطفا في السياسة الدولية. ولم يعد بإمكان واشنطن التحرك عسكريا بكل حرية في النزاعات الدولية، وجرى تقييد حركتها في مجلس الأمن من طرف روسيا والصين.
في غضون ذلك، سيجد التوجه الجديد للرئيس الأمريكي باراك أوباما نحو “سياسة خارجية تطغى فيها الدبلوماسية على القوة العسكرية” صعوبة في التطبيق، لأنها غير معززة بنظريات السلام والأفكار الحوار وسط صناع القرار الأمريكي. فقد تربى الباحثون والسياسيون الأمريكيون على مدار قرنين على فهم السياسة الخارجية في ارتباطها بالقوة العسكرية، وكل تغيير يحتاج لفترة طويلة.
فهل سينتج الفكر الأمريكي مفكرون من طينة سامويل هانتنغتون يدعون للسلم وليس للتفوق الحضاري القائم على القوة العسكرية؟ أم ستبقى مبادرات أوباما معزولة يرمي من وراءها الى ربط اسمه بمبادرات سلمية لم يكتب لها النجاح الآن ولكنها ستبقى للتاريخ وقد تمهد لتغيير في المدى البعيد، ويبرر حصوله على جائزة نوبل للسلام سنة 2009؟