الغرب يحاول بناء نفسه من جديد من خلال الاتفاقية الأطلسية للتبادل التجاري للإستمرار في تزعم العالم

يشهد العالم تطورات عميقة جيوسياسيا حيث ترغب القوى الكبرى في المحافظة على مكانتها، بينما تحاول قوى صاعدة الانضمام الى نادي الكبار. وتبدل الدول مجهودات فردية للصعود أو عبر تجمعات سياسية وإثنية وثقافية كبرى مثل حالة دول “البريكس” المكونة من الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل وحالة الغرب الراغب في الاستمرار في ريادة العالم خلال القرن الحالي جاعلا من التجارة عمادا لهذه الاستراتيجية. ويراهن الغرب بقيادة الولايات المتحدة على “الاتفاقية الأطلسية للتبادل التجاري الحر والاستثمار” التي ستكون الأكبر من نوعها في تاريخ البشرية، لاسيما بعدما أكدت التجارب التاريخية ومنها في القرن العشرين مثل مشروع مارشال أو الاتحاد الأوروبي دور التجارة والاقتصاد عموما رافعة وأرضية الأهداف السياسية البعيدة المدى.

وفي الوقت الذي كانت فيه الكثير من الدراسات تشير الى انتقال ثقل العالم الى منطقة الهادي بسبب وجود أكثر من نصف البشرية على ضفتي هذا المحيط الشاسع من صين وهند والولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، وكذلك وجود قوى اقتصادية كبرى مثل روسيا والصين والهند والشريك الأمريكي، يتفاجأ العالم بوجود مفاوضات سرية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول اتفاقية أطلسية للتبادل الحر بين الطرفين.

وهذه الاتفاقية التي جرى الكشف عنها بشكل رسمي منذ شهور فقط، تعود مفاوضاتها السرية الأولى الى سنة 1990 والمحاولات الأخيرة الجادة الى أربع سنوات فقط، حيث بقيت المفاوضات الأخيرة محصورة بين مسؤولين قلائل في أوروبا منهم رئيس المفوضية الأوروبية مانويل بروسو ورؤساء دول مثل الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ولاحقا فرانسوا هولند والمستشارة الألمانية أنجليكا ميركل وكذلك رئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون وعن الجانب الأمريكي مسؤولين منهم الرئيس باراك أوباما وكذلك بعض الخبراء الذين التزموا بالسر.

 وطابع السرية التي جرت فيه المفاوضات طيلة هذه المدة قبل الإعلان التدريجي عن وجود مفاوضات حول الاتفاقية بعدما تسرب الخبر الى وسائل الاعلام ونواب في البرلمان الأوروبي خلال شهر مارس الماضي، يكشف ويؤكد الحساسية الكبيرة التي تطبع وتميز اتفاقية من هذا الحجم حيث تتعدى الطابع الاقتصادي والتجاري المحض الى ما هو جيوسياسي.

وتنص الاتفاقية التي قد يتم التوقيع عليها خلال شهور على التبادل الحر بين الطرفين في مختلف المجالات بما في ذلك قطاع الخدمات وحرية تنقل العمال وكذلك حرية تنقل رؤوس الأموال للاستثمار.

ورقميا، تعتبر الاتفاقية ضخمة بكل المقاييس وهي الأكبر من نوعها في تاريخ البشرية. فعمليا، تهم أكثر من 800 مليون نسمة، ساكنة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتضم الدول التي تتوفر على أكبر دخل فردي في العالم وقدرة شرائية صلبة بحكم وجود أكبر طبقة من الأغنياء والطبقة المتوسطة في شعوب الدولة التي ستوقع على الاتفاقية.

وفي الوقت ذاته، فالاتفاقية تشكل 60% من الناتج القومي العالمي و33 % من تجارة الممتلكات علاوة على 42% من تجارة الخدمات في العالم. والأرقام دائما مذهلة، فرغم ما يقال عن توجه الولايات المتحدة لآسيا، فهي تعتبر المستثمر الأول في القارة الأوروبية بثلاث مرات أكثر من استثماراتها في القارة الأسيوية.  بينما استثمارات الاتحاد الأوروبي في الولايات المتحدة هي سبع مرات أكثر مقارنة مع استثماراتها في القارة الأسيوية.

وهذه المبادرة الاقتصادية والتجارية هي مبادرة للولايات المتحدة بدعم من بريطانيا، ولا يمكن فصلها عن التطلعات الاستراتيجية مستقبلا للولايات المتحدة بل وللغرب برمته. إذ كشفت التجربة أن مبادرات مماثلة خلال العقود الأخيرة وبالضبط بعد الحرب العالمية الثانية وأساسا مشروع مارشال ثم السوق الأوروبية المشتركة كانت تقف وراءها أهداف سياسية محضة.

فقد خرجت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية منهارة ومدمرة، وخوفا من سقوطها في فلك الاتحاد السوفياتي، حيث تزامنت مع بداية الحرب الباردة، راهنت الولايات المتحدة على مشروع مارشال لإعادة بناء القارة الأوروبية. وتبرز الأدبيات السياسية والتحاليل اللاحقة لهذا المشروع رهانه على إعادة بناء منظومة الغرب في مواجهة الشيوعية. واستطاع مشروع مارشال إعادة أوروبا الغربية الى سكة النمو والاستقرار السياسي والاجتماعي. وبهذا، أنقذت الولايات المتحدة الغرب وأصبحت زعيم هذا التكتل.

في الوقت ذاته، تتلخص مبادرة السوق الأوروبية المشتركة، التي ستتحول لاحقا الى الاتحاد الأوروبي، في تطوير العلاقات بين دول أوروبا الغربية وامتصاص التوتر التاريخي بينها بالانصهار في وحدة اقتصادية ولاحقا سياسية تتجلى في الشكل الذي عليه الاتحاد الأوروبي حاليا.

وعلى ضوء هذا، الاتفاقية الأطلسية للتبادل التجاري الحر والاستثمار هي قرار جيوسياسي يدخل ضمن عملية إعادة بناء الغرب من جديد في مواجهة التطورات العالمية التي يشهدها العالم بشكل متسارع. وتأتي هذه الاتفاقيات في السياقات التالية:

-اقتصاديا: بدء المفاوضات سنة 2010 بشكل جدي وسري للغاية بالتزامن مع ارتفاع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغرب وهددت ريادته للاقتصاد العالمي. وكانت المفاوضات الأولوية قد بدأت سنة 1990 عند انهيار المعسكر الشيوعي، حيث رغبت الولايات المتحدة في تطوير العلاقات التجارية للمحافظة على العلاقات العسكرية في ظل ارتفاع أصوات وقتها تنادي بضرورة حل الحلف الأطلسي. لكن المسلسل تباطئ وقتها لأن الولايات المتحدة بقيت القوة الوحيدة في العالم بينما أصبح عرشها الآن مهدد بشكل جدي. واقتصاديا دائما، تفيد آخر التقارير الاقتصادية باحتمال تعويض مجموعة دول بريكس مجموعة دول “السبع الكبار” مستقبلا، علما أن الغرب يمارس سيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال هذه المجموعة رفقة آليات ومجموعات أخرى.

سياسيا: بدء هذه المفاوضات بالتزامن مع عودة التوتر السياسي وسط الاتحاد الأوروبي بظهور قوى سياسية يسارية راديكالية ويمينية محافظة متطرفة مثل الجبهة الوطنية في فرنسا تتعاظم قوتها مع مرور الوقت، وتلوح باتخاذ إجراءات تهدد، بدون وعي منها، وحدة الغرب. وهذه الإجراءات منها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ومن الحلف الأطلسي. ويعتبر الحلف والاتحاد من رموز قوة الغرب، وانهيارهما يعني انهيار المنظمة الحديثة للغرب. وستعمل الاتفاقية على تعزيز العلاقات مجددا وسط الاتحاد ومع الولايات المتحدة كما نجحت في ذلك السوق الأوروبية المشتركة منذ الخمسينات.

جيوسياسيا: يشهد العالم ظهور تكتلات جديدة وقوى صاعدة. فقد بدأت تتحول الصين الى دولة مرشحة لقيادة العالم بمفردها خلال العقود المقبلة أو في السنوات المقبلة رفقة مجموعة دول البريكس.  وهذا يتزامن مع ارتفاع الحديث القوة عن انهيار منظومة الغرب واستنفاذ قوتها بحكم عجلة الدورة الدائرية الحضارية للتاريخ بين أمم تنهض وأخرى تسقط وتنهار.

وكان المحلل الاقتصادي كبير غاتينوا، وهو صحافي متخصص في الاقتصاد من جريدة «لوموند» قد كتب في مجلة/كتاب بعنوان “تاريخ الغرب: انهيار أم تحول” صادر عن الجريدة نفسها خلال سبتمبر الماضي حول هذه الاتفاقية أن “الغرب وفي صمت تام، عمل على التفاوض حول السوق الأطلسية طيلة 25 سنة قبل الكشف عنها مؤخرا لتكون أكبر سوق عالمية ستجعل الواجهة الأطلسية تستمر اقتصاديا مهما يقال عن انتقال العالم الى واجهة الباسفيك”.

يرافق المفاوضات حول الاتفاقيات جدل كبير حول الإيجابيات والسلبيات ومنها حول هيمنة الشركات الكبرى ومن الرابح والخاسر من قطاعات، لكن كل هذا يبقى ثانويا أمام الهدف جيوسياسي وهو أن الاتفاقية ترمي الى رغبة الغرب في ريادة العالم، فالاتفاقية ستوفر نموا اقتصاديا والمحافظة على الطبقة المتوسطة واندماج شركات تكنولوجية وميزانيات هائلة للبحث العلمي، عناصر أساسية للريادة.

وتاريخيا، تعتبر التجارة محركا أساسيا وجوهريا للتطورات الدولية وارتبطت بها اتفاقيات استراتيجية وتسببت في حروب كبيرة للغاية وصنعت خرائط سياسية جديدة، وها هي “الاتفاقية الأطلسية للتبادل التجاري الحر والاستثمار” بقدر ما تريد صنع خريطة جديدة ترغب في الإبقاء على خريطة النفوذ الجيوسياسية الحالية.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password