أدت شكوى منظمة ‘عمل المسيحيين لإلغاء التعذيب’ ضد مدير المخابرات الداخلية المغربية عبد اللطيف الحموشي عن مسؤولية مزعومة له في ممارسة التعذيب بالمغرب واستدعاء القضاء الفرنسي له إلى سلسلة من التفاعلات التي كشفت وجود توتّر بين البلدين.
محاولة الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند تخفيف هذا التوتّر من خلال الاتصال بالملك المغربي محمد السادس لم تنزع فتيل الأزمة، ولا التوضيحات التي جرت بعدها لشرح أن الدولة الفرنسية لا تستطيع التدخل في قرارات القضاء.
الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية الذي قدّم هذه التوضيحات أضاف عليها الحلوى الرئيسية على طبق العلاقات الدولية حاليا بقوله ‘إن التعاون الأمني فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب هو جدّ قويّ ولا يمكن أن يتأثر بحادث عابر’، معتبراً ذلك كافياً لطمأنة المغاربة، قيادة وشعباً، أن حقوقهم وصلت كاملة!
غير أن هذه ‘الحلوى المسمومة’ فقدت طعمها مباشرة بعد تصريحات نشرتها صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية للممثل الاسباني خافيير بارديم صرح فيها ان سفيراً فرنسياً قال له إن المغرب ‘مثل العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها’.
حرّكت العبارة الأخيرة حساسيات ملفّ العلاقات المعقّدة بين المغرب وفرنسا، والتي يخفي الجانب السياسيّ منها عناصر ثقافية أكثر إشكالية تشتبك فيها حدود المصالح والرغبات، ويتبادل فيها الطرفان سوء الفهم في قضايا السياسة والثقافة والجنس والدين، إلى آخر ما في قائمة هذا الملفّ من عقد ظاهرة ومخفيّة. سارعت بعض التحليلات إلى تفسير ما حصل بربطه بالآنيّ والتفصيليّ، من قبيل تأطيره ضمن ردود الفعل على زيارة الملك المغربي محمد السادس لأربع دول إفريقية، الأمر الذي يثير، بحسب تحليل هؤلاء، قلق فرنسا، التي تعتبر إفريقيا حديقتها الخلفية، وهو ما استدعى بالتالي تحريك القضاء الفرنسي.
مشكلة هذا التحليل الأساسية افتراضه أن كلّ ما يجري في العالم يسير وفق خطة تآمرية للنيل من بلداننا العربية والاسلامية التي ترفل بالكرامة والعدالة وتسير مرفوعة الرأس نحو مستقبل مشرق لا تشوبه شائبة من خلل.
والحال أن المشكلة أكثر تعقيداً بكثير من هذا السيناريو الكاريكاتوري للعلاقات بين دول العالم، وخصوصاً بين فرنسا والمغرب، ويشترك الطرفان في جدل حبالها، بأوهامه الثقافية والسياسية عن الآخر، كما يقوم الطرفان، باستمرار، باختراع أشكال متكررة من سوء الفهم.
يعرف المغرب بالتأكيد أن القضاء الفرنسي لا يمكن إلا أن يكون منفصلاً عن أجهزة الدولة التنفيذية وإلا فقدت المؤسسات، كافّة، شرعيّتها، وتحوّل النظام الديمقراطي إلى استبدادي، ولكنّ نخبته السياسية تفضّل أن تقيس الأمور على مقياسها الذي تتحكم فيه أجهزة الأمن بالمؤسسات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا هو سوء الفهم الأول.
ومن هنا يمكن فهم ردة الفعل المغربية الكبيرة على استدعاء القضاء الفرنسي لمدير المخابرات الداخلية المغربية، فالكتلة الصلبة داخل الدولة المغربية (ناهيك عن المخيال السياسي والاجتماعي) ترتكز، كباقي الدول العربية، على أجهزة الأمن، وبهذا المقياس، فقد اعتدت مؤسسة ‘ركيكة’ مثل القضاء على ‘جهة سيادية’ هي مدير المخابرات!
سوء الفهم الثاني جاء من الجانب الغربي لضفة المتوسّط، فمفهوم العشيقة في فرنسا تاريخياً، يختلف بالتأكيد عن مفهومه في المغرب، وحمولته الإيجابية، عند الفرنسيين عموماً، قد تعادل حمولته السلبية عند المغاربة (ضمن علاقات الزنا والحلال والحرام).
رغم توضيحات الفرنسيين للمغاربة أن الدولة لا تتدخل في شؤون العدالة والقضاء، فالأغلب أن الإليزيه والحكومة الفرنسية سيضغطان على المحامي العام الذي أصدر قرار الاتهام لتخفيف الخسائر الدبلوماسية المتزايدة، وبذلك تقترب فرنسا خطوة من المغرب في محاولة التأثير في مؤسسة القضاء (وهو أمر ممكن حتى في فرنسا!). بالمقابل تحاول النخبة المغربية ‘تثقيف’ الرأي العام المغربي بالحمولة الإيجابية لكلمة ‘العشيقة’، كقول الناشط السياسي المغربي فؤاد عبد المومني ان الصيغة الانكليزية للكلمة التي استخدمها الممثل الاسباني (The Lover) تعني العاشق او العاشقة على حد سواء، وأن العلاقة بين البلدين علاقة عشق وهيام متبادلين.
النتيجة هي أن الاشتباك الحاصل أدى الى ‘تقارب’ من نوع مسيء (أو مفيد؟) للطرفين.
لكن ما يبعث على السعادة، على ضفتي المتوسط، انه رغم استدعاء القضاء الفرنسي لمدير المخابرات الداخلية المغربي فان “التعاون الامني” مستمر!
افتتاحية القدس العربي : فرنسا والمغرب: معركة العشيقة ومدير المخابرات!
صورة باللون الأبيض والأسود للملك محمد السادس ورئيس فرنسا فرانسوا هولن تعكس الأزمة بين البلدين