مازالت تونس تستقطب الاهتمام في العالم العربي وغيره بسبب الخطوات السياسية و الدستورية التي تتخذها وهي تبحث عن وجهها المكتمل لانتقالها الديمقراطي إلى مرحلة ما بعد ثورة الربيع العربي. وبعدما كان هذا البلد المغاربي مبعث شرارة ثورة الربيع، يعود اليوم ليسجل مع اختيارات دستورية جريئة على التركيبة الثقافية والدينية في العام العربي، مثل المصادقة على دستور يجرم التكفير وهي واحدة من الظواهر التي تتهدد الاستقرار والتعايش السياسي بين قوى الإسلام السياسي وخاصة السلفية ثم القوى العلمانية في الطرف الاخر، ثم الإقرار بقانون المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، فاستبعاد التنصيص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساس للتشريع. وترسم هذه الاعتبارات الدستورية ملامح تشكل نسخة ثانية من السلطة قد تتبلور وتتمدد في دول الربيع العربي، و يشهد فيها تأثير العلمانيين مدا بينما تعرف فيه بصمة الإسلاميين جزرا بسبب كبوتهم لأسباب ذاتية مرة وغيرية مرة أخرى.
وصادق المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) امس الاول على تعديل فصل في الدستور الجديد لتونس جرّم بموجبه “التكفير والتحريض على العنف”. وباتت الصيغة الدستورية الجديدة تنص على أنه يُحجَّرُ (يمنع) التكفير والتحريض على العنف”. وباتت، بموجب الفصول الجديدة في الدستور، “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. يُحجَّرُ التكفير والتحريض على العنف”.
وفي سياق مبادرة دستورية تعتبر نوعية بالنظر إلى طبيعة الجغرافية السياسية والثقافية التي تنتمي إليها تونس، وهي العالم العربي و الإسلامي، فقد صادق المجلس التأسيسي التونسي في الفصل 20 من الدستور الجديد على “المساوة بين التونسيين والتونسيات في الحقوق والواجبات وامام القانون “، ويحعل هذا الفصل تونس امام مبادرة دستورية غير مسبوقة في العالم العربي.
وفي فصل لا يقل إثارة بالنظر إلى طبيعة المضامين الدستورية الجديدة، جرى استبعاد الإسلام كمصدر تشريع أساسي بالسنبة إلىى دستور هذ البلد المغاربي ، على الرغم من قرن تونس بالهوية الإسلامية وجاء في مضمون الفصل:” تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الاسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل”. وكانت اغلبية النواب رفضت مقترحين لحزب تيار المحبة ولنائب آخر مستقل مقترحات كانت ترغب أن يجري ضمها إلى الدستور إحداها هي :” الاسلام هو المصدر الاساسي للتشريعات”، والثانية هي :” جعل القرآن والسنة المصدر الأساسي للتشريعات” في تونس.
وتشي هذه الإقرارات الدستورية التي صادق عليها المجلس التأسيسي التونسي مثل “تجريم التكفير”، والمساوات بين الجنسين في الحقوق الواجبات ثم استبعاد التنصيص على أن الإسلام مصدر التشريع الأساسي على الرغم من التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، تشي بمعالم نسخة ثانية من السلطة تتبلور في احد ابرز بلدن الربيع العربي بفضل قيمته الرمزية وهي تونس وقد تمتد فلسفتها إلى رحاب بلدن الربيع الاخرى وتهيئ سياقا جديدا لتشكل سلطة بمعالم جديدة، وتحل محل النسخة الأولى من السلطة التي صاغها الإسلاميون بعد فوزهم بالانتخبات الديمقراطية الأولى بعد التغيير في بلدان الربيع مثلما جرى في تونس نفسها وفي مصر على وجه الخصوص.
وعلى الرغم من أن حركة النهضة في تونس التي تمثل الإسلام السياسي المعتدل ، قد يبدو وانها صرعها خصومها العلمانيون في مسار البحث عن هوية قانونية ودستورية للبلاد بعد ا لمصادقة على هذه القرارات الدستورية الجديدة ذات الطابع المدني العلماني ، إلا انها مع ذلك قد تخرج النهضة بمكسب ترتسم معه صورة إيجابية عن حركة النهضة باعتبارها قوة إسلامية تتعايش سياسيا وديمقراطيا مع قوى سياسية نقضية. وتشيد صورة عن إسلام سياسي يستوعب اللحظة السياسية ويقرأ جيدا المرحلة، و يتبنى برغماتية لافتة على الطريقة الأنجلوساكسونية. ويستوعب التحولات ويستفيد من مصائر الإسلام السياسي وخاصة وضع الإخوان المسلمين في مصر ، الذين وصلوا إلى السلطة بعد اول انتخابات نزيهة في البلاد بفضل الربيع العربي، قبل ان يتدخل الجيش بعد احتجاجات طلبت بتغيير السلطة فيعزل الرئيس المصري محمد مرسي، ثم يعمد إلى حل الجماعة بل وتصنيفها بالإرهاب وسجن كل رموزها، والتوجه بالبلاد نحو مستقبل قلق للغاية.
لكن في المقابل هل تكون هذه القوانين الدستورية الجديدة في تونس مبعثا للاستقرار السياسي وخطوة لانطلاق نحو تعايش سياسي وديمقراطية بين القوى والحساسيات المختلفة؟ أم انها ستعمق الهوة خصوصا مع قوى نقيضة على المستوى الإديولجوجي خصوصا السلفية ، وستذكي التدافع السياسي وتقوده إلى حدود تفرز اضطرابا، وهل هذه النسخة من ملامح السلطة تصلح فقط في تونس ام يمكن سحبها على تجارب جديدة تبحث ضمن تقلبات الربيع العربي عن خلاص سياسي لازمة التدافع السياسي غير المنضبط.