يوم أول نوفمبر من سنة 1988، عثر الحرس المدني على جثة في شاطئ مدينة طريفة في الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق، كانت أول جثة يتم العثور عليها ضمن ما سيصبح معروفا باسم «الهجرة السرية» أو «الهجرة غير النظامية» وكذلك «قوارب الموت»، لتبدأ مآس حقيقية طيلة قرابة ثلاثة من العقود وأبرزها فاجعة يوم 20 أبريل 2015 عندما غرق أكثر من 800 مهاجر دفعة واحدة.
يقول الصحافي إلدلفونسو سينا لـ «القدس العربي» وهو أول من كتب مقالا حول ظاهرة قوارب الموت من شمال إفريقيا نحو أوروبا والتقط صورة لأول جثة/ضحية الهجرة السرية «يوم اول نوفمبر 1988 كانت الرياح شديدة والغيوم كثيفة، وحوالي العاشرة صباحا جرى الاتصال بي ليخبرونني بالعثور على جثة على شاطئ طريفة دون أي توضيح آخر». ويضيف «في ظرف عشر دقائق كنت على الشاطئ، وجدت جثة تعود لشاب ملامحه مغربية في حوالي 30 من عمره ألقت به الأمواج وعلى بعد أمتار منه كان قارب خشبي يرسو متهالكا في الشاطئ».
ويستطرد قائلا في وصف حادث وكأنه مر عليه ساعات فقط بدل ثلاثة عقود تقريبا لأنه من الصعب نسيان أدق تفاصيل مثل هذه اللحظات، «ونحن أمام الجثة، وصل ضابط الحرس المدني مانويل برادوس ورفقته خمسة مغاربة جرى اعتراضهم في الطريق التي تؤدي إلى الجزيرة الخضراء وكانوا يتحدثون العربية والفرنسية، وكنت الوحيد الذي يتحدث الفرنسية، وسألتهم عن الجثة، وكان الجواب غير المنتظر: لقد انطلقنا بعد منتصف الليل من شاطئ طنجة في قارب على متنه 24 شخصا، وعندما اقتربنا من الشاطئ انقلب القارب، اعتقدنا أن المياه لم تكن عميقة ولكن كان العكس، من يجيد السباحة خرج وهم نحن الخمسة والباقي غرق».
ويستمر إلدلفونسو في سرده «وقتها تأكدنا أن الجثة لا تعود لصياد أو مهرب مخدرات بل لشاب كان يرغب في الوصول إلى أوروبا بعدما بدأت السوق الأوروبية (الاتحاد الأوروبي لاحقا) في التشدد في مواجهة الهجرة القانونية. وتصدر الخبر في اليوم الموالي الجرائد الأوروبية بنوع من التعجب والاستغراب وهو كيف يغامر شباب بأرواحهم للوصول إلى أوروبا؟ وفي الأيام اللاحقة بدأ البحر يلفظ جثث ضحايا أول قارب للهجرة السرية يعبر مضيق جبل طارق، كنا أمام ظاهرة لم نستوعبها في البدء لتأخذ بعدا مأساويا خلال الســــنوات اللاحــــقة وتستمر حتى اليوم، وكل هذا وسط اللامبالاة من الحكومات الأوروبية، وتحول الضحايا إلى مجرد أرقام متضمنين في قصاصات الأخبار».
لم يتم التعرف على معظم ضحايا قارب نوفمبر 1988 وكذلك القوارب اللاحقة، ويوجد أغلبهم مدفونين في قبور جماعية أو قبور مجهولة الاسم تحمل أرقاما فقط في مقبرة الجزيرة الخضراء.
وستشهد ظاهرة قوارب الهجرة منعطفا سنة 1992 عندما فرضت اسبانيا التأشيرة على المغاربة وباقي الدول المغربية وإفريقيا. لم يعد أمام الحالمين بالسفر سوى وسيلتين، تزوير التأشيرة أو المغامرة عبر قوارب الموت نحو الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق.
كانت ظاهرة قوارب الهجرة أو ظاهرة قوارب الموت محتشمة في السنوات الأولى، في نهاية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، وكان الرأي العام يعلم بها سواء في اسبانيا أو أوروبا وكذلك في المغرب بعد غرق قارب من القوارب. وكان غرق القارب يشكل الحدث الإعلامي، كما كان يشكل الحدث وصول قاصرين أو نساء وأخيرا أفارقة من جنوب الصحراء، وبهذا لم تعد الهجرة مقتصرة على المغاربة بل على جزء كبير من شباب قارة ترغب في الانتقال إلى أوروبا.
ومع تزايد الحالمين بأوروبا والمغامرين على متن هذه القوارب، ارتفعت وتيرة الغرقى والمفقودين إلى مستوى تحول معه مضيق جبل طارق إلى مقبرة بحرية حقيقية. وكانت قوارب الهجرة تشهد أوجها في فصل الصيف عندما يكون البحر هادئا أو عندما كانت دولة من الدول الأوروبية مثل اسبانيا وإيطاليا تعلن عن مسلسل تسوية أوضاع المهاجرين السريين. كانت مثل هذه الأخبار مفرحة للعصابات التي تشرف على تهريب البشر.
ابتداء من سنة 1992، بدأ المغرب في حراسة شاطئ مضيق جبل طارق ما بين طنجة إلى حدود سبتة المحتلة وشواطئ إقليم تطوان، وأمام انتشار مئات الجنود في نقط مراقبة، تطورت الهجرة السرية إلى هجرة منظمة تشرف عليها عصابات ولو قليلة العدد تقوم بتهريب الأشخاص من شواطئ تقع ما بين وادي لاو إلى حدود مليلية في الشاطئ المتوسطي المغربي نحو شواطئ الأندلس في إقليم مالقا.
وكان هذا هو الطريق الثاني للهجرة السرية في التسعينيات، وكلما شدد المغرب الحراسة تظهر طرق أخرى ومنها طريق ثالث وخطير للغاية وهو من جنوب المغرب نحو جزر الكناري في المحيط الأطلسي، لتصبح المنطقة الممتدة من السنغال إلى جنوب المغرب نحو جزر الخالدات. وإذا كانت تنطلق من شمال المغرب قوارب صغيرة ومتوسطة تسع قرابة أربعين شخصا، فقد انطلقت من شواطئ موريتانيا والسنغال قوارب الهجرة المعروفة بـ «كايوكو» وهي التي تحمل ما بين مئة و150 مهاجرا دفعة واحدة.
وكانت رحلة الإبحار من السنغال إلى جزر الكناري تستغرق أحيانا 12 يوما في البحر لقطع مسافة تقرب الألف ميل. وكان يحدث أن يغرق قارب بالكامل وتبتلعه تيارات المحيط الأطلسي، ولا أحد يعلم بالفاجعة سوى عائلات المهاجرين الذين يؤكدون لاحقا للصحافة والجمعيات الحقوقية انطلاق قوارب في تاريخ معين ولم تصل إلى جزر الكناري لأن ذويهم لم يتصلوا لاحقا، وهذا يعني أنهم في عداد المفقودين.
وفي منتصف العقد الماضي، ظهر طريق ثالث وهو إنطلاق القوارب من شواطئ الجزائر نحو شواطئ شرق اسبانيا وكذلك من شواطئ تونس إلى جنوب إيطاليا. ولم تتعزز الهجرة السرية كثيرا في هذا الطريق بسبب الحراسة المشددة التي اعتمدتها السلطات التونسية والجزائرية بسرعة فائقة حتى لا تتفاقم الظاهرة.
وبدأت ليبيا خلال السنوات الأخيرة من حكم القذافي تشهد إبحار قوارب محملة بالمهاجرين نحو صقلية، لكن الحديث عن الطريق الثالث للهجرة السرية هو مع إنهيار نظام القذافي وغياب حراسة الشواطئ، ومعه ظهرت السفن المحملة بمئات المهاجرين إلى غاية السفن التي تحمل قرابة ألف دفعة واحدة نحو جنوب إيطاليا. وهو ما يحدث في الوقت الراهن، وأعاد إلى الأذهان هجرة مواطني ألبانيا إلى إيطاليا في بداية التسعينيات عندما انهار النظام المالي لألبانيا وسقط النظام الشيوعي.
وسيسجل الطريق الرابع من ليبيا إلى إيطاليا أكبر فاجعة في تاريخ الهجرة غير النظامية من القارة الأفريقية إلى أوروبا بغرق حوالي 800 شخص يوم الاثنين 20 نيسان/أبريل 2015، فاجعة أيقظت الضمير الإنساني.
ويبقى الطريق الرابع مختلفا عن الطرق البحرية الثلاث الخاصة بالهجرة غير النظامية. فالأول والثاني من شواطئ المغرب والجزائر وتونس والثالث من سواحل أفريقيا الغربية نحو جزر الكناري يخضع لمفهوم الهجرة ذات الدوافع الاقتصادية، يتعلق الأمر بمهاجرين يقصدون أوروبا للعمل. بينما تقف عوامل سياسية ونزاعات مسلحة وراء الخط الرابع، فالأمر يتعلق بهجرة النازحين والهاربين من الحروب مثل الوضع في ليبيا وسوريا، حيث تؤكد أرقام حكومة روما أن السوريين يتصدرون لائحة المهاجرين الذين يصلون إلى شواطئ إيطاليا منذ كانون الثاني/يناير الماضي.
طيلة هذه العقود، اتخذت الهجرة السرية من شمال أفريقيا نحو أوروبا مظاهر مختلفة ومتضاربة. مظاهر الفرح متجلية في أولئك الذين نجحوا في الوصول إلى أوروبا وأغلبهم مغاربة حيث استقروا ووجدوا عملا، رغم الحراسة. والتقت «القدس العربي» في اسبانيا عشرات المغاربة الذين قدموا عبر مراحل مختلفة على متن قارب للهجرة السرية، وعندما نسألهم هل يكررون التجربة إذا عاد الزمن إلى الوارء؟ «يكون الجواب نعم».
تسببت الهجرة غير النظامية في أزمات متتالية بين المغرب واسبانيا ولاحقا بين بعض الدول الأفريقية والاتحاد الأوروبي، حيث يعجز الطرفان حتى الآن عن إيجاد حل متفق عليه يمزج بين ما هو أمني وما هو تنموي.
وإعلاميا، أصبحت الهجرة السرية من شمال أفريقيا نحو أوروبا مادة إعلامية حاضرة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، تحظى بالأهمية تماشيا مع طابعها المأساوي.
وكانت التغطية استثنائية بعد انتشال أول جثة يوم 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1988. وبعد سنوات، غرق قارب على متنه 32 شابا من شباب قرية واحدة وهي وادي لاو يوم 21 تموز/يوليو 2000، ابتلعهم البحر بدون لفظ ولو جثة واحدة. وتكررت الضجة بغرق 37 مغربيا دفعة واحدة في مضيق جبل طارق يوم 27 تشرين الاول/أكتوبر 2003، حيث رمى البحر جثث بعض الضحايا وقد أكل السمك جزء منها. ويوم 3 تشرين الاول/أكتوبر 2013، تفاجأ العالم بغرق قرابة 360 مهاجرا من ليبيا نحو إيطاليا، وكان هذا الرقم قياسيا في تاريخ الهجرة ولكن بشكل مؤقت، فقد غرق أكثر من 400 في المياه نفسها يوم 12 نيسان/أبريل 2015، وأسبوعا بعد ذلك غرق قرابة 800، وهو رقم قياسي قد يكون مؤقتا فقط في انتظار فاجعة أخرى.
وتصدر تقارير متعددة حول عدد ضحايا الهجرة السرية، الأوساط الحكومية في شمال إفريقيا والاتحاد الأوروبي تقلل منها وتتحدث عن بعض آلاف، والجمعيات الحقوقية وبعض الدراسات تتحدث عن عشرات الآلاف.
وتستمر الهجرة السرية على مستوى الضحايا والموقوفين مجرد أرقام في وقت لم يستيقظ فيه الضمير الإنساني لإيجاد حل لظاهرة حاضرة بكل عنوانها المأساوي منذ ثلاثة عقود وتتفاقم أكثر وأكثر.