وداعا اليمن! توفيق رباحي

تظاهرات يمنية

ضاع اليمن إلى غير رجعة. قد يعود يوما، لكن ليس في الأربعين سنة المقبلة. الخراب الذي سيتركه الاقتتال الحالي خطير. وأخطر منه إصابة الإنسان في أعماقه وتمزق المجتمع اليمني على أسس جديدة ستكون هي موضة الحروب في المنطقة خلال العقود المقبلة. أحد هذه الأسس، بل أخطرها وأسوأها، العِرْق والمذهب.
الذين أضاعوا اليمن، هم العرب بقصر نظرهم وقلة حنكتهم السياسية والدبلوماسية. هم أول وأكثر من يتحملون مسؤولية هذه الكارثة التي وُلدت بينهم ووقفوا يتفرجون عليها تكبر بين ظهرانيهم غير مكترثين. والمقصود بالعرب هنا الأغنياء منهم، دول الخليج التي كان يجب أن تتحرك بدافعين، الغنى والجوار الجغرافي الذي يعني المصلحة الأمنية. على رأس هؤلاء تتحمل المملكة العربية السعودية النصيب الأكبر من المسؤولية. لأنها الأكبر والمسؤولة بثقلها الروحي والبشري والمالي، ولأن حدودها مع اليمن تتجاوز 1500 كلم طولاً. ثم يأتي نصيب الدول الأخرى الأقل غنى، الأبعد جغرافياً والتي كان يمكن أن تكون «محضر خير»!
العرب فرّطوا في اليمن أكثر من مرة وفي أكثر من ظرف وسياق. منذ البدء تركوه فريسة للفقر واليأس والفشل، لا يتقن شعبُه إلا إدارة الصراعات والاقتتال.
بل أوشك العرب أن يتبرأوا من اليمن ومن آفاته وأسباب تحوله إلى دولة فاشلة، بينما كان في متناولهم صناعة الفرق بقليل من «فكة» (الفراطة ـ كما يقال في المشرق) أموالهم، ويعيدون تأهيله حتى تزول أسباب تخلفه وتبتعد مخاطر انهياره الذي سيؤذي الجميع.
لم يكن اليمن بحاجة إلى عضوية في مجلس التعاون الخليجي. هذا ترف كلام لأن اليمن غير متجانس مع دول الخليج، لا سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا ثقافيا. الأهم من العضوية في نادي الدول الخليجية منح هذا البلد مساعدات وفق خطط واتفاقات ومراحل زمنية، تكون نهايتها أن يتوقف عن تشكيل خطر على نفسه وجيرانه، ويتحول من مصدر خوف وإزعاج إلى سبب راحة واطمئنان.
إلحاق اليمن بمجلس التعاون الخليجي قد يشبه التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي أو أسوأ. لكن أسوأ من رفض ضم اليمن إلى المجلس، تركه يغرق في فقره وفشله.
كان العرب، لو فعلوا، سيسيتفيدون من اليمن قدر استفادة اليمنيين أنفسهم، وربما أكثر. كانوا سيشترون أمنهم وراحتهم وسلامتهم. (كان) هذا البلد مؤهلا ليصبح قطعة من الجنة فوق الأرض، لكنه تحوّل إلى ما نرى يوميا ونقرأ في الأخبار. عدن المنكوبة والموشكة أن تغرق في بحر من الدماء (ربما قبل صدور هذه المقالة) كان يجب أن تكون أفضل وأنشط منتجع في كل البر الممتد من من أفغانستان إلى نواذيبو. ألم يجعل البريطانيون من مينائها ثالث أكثر مرافئ العالم نشاطا في القرن الماضي؟ ما الذي منع العرب أن يجعلوا منه عاشر مرافئ العالم بنشاطه التجاري والبشري؟
العرب سلّموا اليمن إلى الرئيس علي عبد الله صالح ليعيث فيه كيفما شاء ويجثم على صدور اليمنيين أربعة عقود قضاها في الحروب والدسائس. فعلوا ذلك اعتقادا منهم أن صالح الداهية سيريحهم من «الشحنة» كلها.
وعندما حانت لحظة خلعه في 2012 تحت ضغط شعبي هائل ومد إقليمي، ماطل صالح وناور بصبر ومكر حتى تغلب على مَن حوله. وانتهى كل شيء ببقائه معلقاً يتمتع بقدرة كبرى على الأذى مقابل تحرره من أية مسؤولية سياسية تجعله عرضة للمساءلة والمحاسبة.
لم يتغلب صالح لأنه الأقوى، بل لأن الآخرين، أي جيران اليمن المعنيين بأزماته، كان يريدون أن «يخلصوا» ويعودون إلى بيوتهم. بدا عليهم آنذاك التعب والإرهاق والخوف من المجهول والخشية من الآثار الجانبية، والرغبة في التخلص من حمل ثقيل مزعج.
لم تكن تلك النهاية بل بداية عهد سِمته الأولى اضطراب يشكل مصدر خوف وقلق أكبر ومختلف، لأن لاعبا جديداً كان يقف متربصا يرصد ما يجري: إيران.
عندما ارتاح جيران اليمن ظناً أنهم تخلصوا من الحمل الثقيل، دخل الثعلب إلى الحديقة وبدأ يتصرف كيفما يرى مستعملا مكره ومستفيداً من جاهزية بعض ممن في الحديقة لحبه واحتضانه.
لم تمد إيران ذراعها إلى اليمن لتسحبها بسرعة وسهولة، إن كانت أصلا ستسحبها. مثلما لم تمد أذرعها في سوريا ولبنان والعراق لتسحبها. إيران جزء من المنطقة ولم تأت إليها في سياحة، وأخطر من ذلك أنها تؤمن بأن الزمن زمنها والريح تهب في صالحها، وبأنها القوة الوحيدة القادرة على التأثير في المنطقة.
هذا الأمر الواقع الذي وضعت إيران الجميع امامه مؤلم. يؤلم أكثر لأن إيران لم تتغلغل إلى اليمن بالحرب والسلاح فقط، بل بأنواع أخرى من التأثير، بينما يحاول العرب، متأخرين كثيراً، الإبقاء على اليمن في حظيرتهم، أو استعادته من إيران، بطيران حربي ونصف حرب!
اليمن اليوم بحاجة إلى مساعدة اقتصادية ومالية محسوبة ومؤثرة في الاتجاه الصحيح. هذه المساعدة يجب أن يكون عربية. والعرب بحاجة إلى البحث عن طرق أخرى للتأثير في هذا البلد وشعبه وكسب قلوبه غير الحرب، مهما كانت الأخيرة ضرورية لترتيب الأوضاع اللاحقة.
ربما فات الآوان لإصلاح كل شيء، لكنه حتما لم يفت لتدارك القليل. لأن الذي يحدث هو رسم جديد للجغرافيا السياسية والاجتماعية والمذهبية لمنطقة آخر مَن يؤثر فيها أهلها.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password