تعتبر 2017 في المغرب من أقسى السنوات سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، بل وحتى فكريا وثقافيا، إذ هي السنة التي بدأ الوعي بالواقع المرّ يتعاظم وسط الرأي العام، الذي يتساءل: هل من فرملة لمسلسل الصعود نحو الهاوية الذي تسير فيه البلاد؟
منذ سنوات، عاش المغاربة حلم احتمال انتقال البلاد إلى دولة صاعدة، وهو الوعد الذي كان قد جاء في الخطاب الملكي صيف 2014. وتعددت سيناريوهات التكهن الاستراتيجي بأن سنة 2017 ستكون المنعطف نحو تحقيق المغرب قفزة نوعية لمغرب القرن 21. كما تعددت كتابات منظرين ومن يفترض أنهم مفكرون، بتشبيه المغرب بتركيا الجديدة، أو كوريا الجنوبية أو تايوان. لكن تلك الكتابات التي حملت توقيع باحثين ينتمون إلى الحقل الأكاديمي، كانت على شاكلة قصائد شعراء القرون الماضية الذين تخصصوا في مدح الخليفة أو السلطان، وذم أعدائه، ولم تكن ما يفترض أنه دراسات وأبحاث تمت للعلم بصلة. وحلت 2017 وها هي تنتهي، مؤكدة على أن حلم الدولة الصاعدة لم يكن سوى سراب، فقد تناسلت التقارير الدولية التي تشير إلى الفشل العريض للمغرب في القطاعات الاستراتيجية: وهي التعليم والصحة والشغل، وبدون تحقيق تقدم ونتائج إيجابية في هذه القطاعات يبقى من الصعب على أي شعب ودولة وأمة تحقيق أي نهضة حقيقية في مسارها التنموي والحضاري. واكتشف المغاربة فجأة انهيار هذه القطاعات، إذ لا تستجيب معظم مستشفيات البلاد للحد الأدنى للمعايير الدولية، وتقع الجامعات المغربية خارج أي تصنيف في البرامج الدولية الأكاديمية، بينما تحولت الهجرة وبمآسيها مثل الموت في البحر إلى القطاع الرئيسي الذي يخلق مناصب الشغل، وهذا لا يدخل في باب السريالية.
وبعدما كان الخطاب الرسمي للدولة المغربية حتى الأمس القريب يعتبر التقارير الدولية، بما فيها الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة عدائية، وتصنف صحافة المخزن (التسمية التقليدية للسلطة في المغرب) وسائل الاعلام المغربية التي تنشر مضمون التقارير بمثابة بوق لأعداء الوطن، فجأة أصبح ملك البلاد محمد السادس بنفسه يستشهد بنتائج هذه التقارير الدولية، ويعتبر توصياتها بوصلة للعمل الحكومي ويتبنى منطق وخطاب المؤسسة التي تنشط خارج المؤسسات مثل البرلمان. لكن المفارقة الكبرى هي أنه بينما تبنت الدولة خطاب التقارير الدولية، تستمر في اعتبار الحركات الاجتماعية الاحتجاجية التي تطالب بالتشغيل والصحة والعمل، أعمالا موجهة من الخارج، وتطبق أجندة خفية للأعداء، وتحاكم الناشطين السياسيين والاجتماعيين بتهم المس بالوطن. هذا ما حدث بشكل مؤلم في الحراك الشعبي في الريف، فقد وجد شباب ينتمون الى منطقة شكلت سدا منيعا تاريخيا في وجه الاستعمار، ووقعت على أكبر الانتصارات في التاريخ العسكري للبلاد، مثل حرب الريف ومنها معركة أنوال. ووجد هؤلاء الشباب أنفسهم في السجون، وبالمئات، لمجرد أنهم طالبوا بحياة كريمة في بلد يزخر بالخيرات برا وبحرا، لكنها مقتصرة على فئة محدودة للغاية. والمفارقة أن بلدا يسجل أعلى معدلات الفساد ونهب الثروات ينعم الفاسدون بالحرية والهناء ويقبع الشرفاء في السجون.
سياسة القبضة الحديدية، وتوظيف أطروحة المس بأمن الدولة، ومن عناوينها الرواية المثيرة ليس للجدل بل للعقل، تلك التي وجهتها الدولة إلى الصحافي الحر حميد المهداوي مدير الجريدة الرقمية الموؤدة عنفا وقهرا «بديل» الذي يقبع في السجن، لم تعد آلية مناسبة للدولة المخزنية لإسكات الشعب عن مطالب العيش الكريم في حده الأدنى، لأن هذه السياسات ذات صلاحية منتهية. وما ميز سنة 2017 في المغرب هو التظاهرات والاعتصامات ذات الطابع الاجتماعي، لا أحد يهتم بالحقوق السياسية، بل بالحقوق الاجتماعية، لأن رغيف الخبز يفرض نفسه على باقي المطالب. وبدأت 2017 على تطورات حراك الريف لتنتهي على تطورات انتفاضة «الخبز الأسود» في منطقة جرادة شرق البلاد، وبينهما انتفاضات ومآس مثل مقتل نساء في باب سبتة إبان ممارسة التهريب، وأخريات في الصويرة خلال توزيع مساعدات إنسانية وكأن البلاد حلت بها كارثة طبيعية. 2018 لن تكون مختلفة عن 2017 في دولة تعتمد على المساعدات المالية الأجنبية لتحقيق نمو اقتصادي طفيف، وألغت كل ما هو اجتماعي لتحقيق الموازنة، ولا تعرف سوى الزيادة في الضرائب والرفع من الأسعار للإيحاء بارتفاع الناتج القومي الخام.
لأول مرة، هناك إجماع وطني على كارثية الأوضاع، استنادا إلى نتائج قطاعات التعليم والصحة والشغل، ولكن القليلين يمتلكون الجرأة للمطالبة بالتغيير وضرورة «التفكير في مغرب الغد». لأول مرة هناك شعور بأن «المغرب يتحول إلى دولة فاشلة في ظل الاستقرار» لكنه ليس بالاستقرار الأبدي. الشعب المغربي، هذا الشعب الذي له أمجاد ضاربة في التاريخ، أصبح الهم الرئيسي لأغلبية أفراده هو حلم التمتع بالعيش الكريم في حده الأدنى في ظل غلاء المعيشة، وتفاقم مشاعر اليأس والغبن، وضبابية المستقبل للبلاد وكل مؤسساتها. المغرب يصعد ولكنه نحو الهاوية، مؤشرات الاقتصاد والمجتمع شاهدة عيان.