احتفلت الجزائر أمس الأول بالذكرى الحادية والستين لاندلاع ثورتها على المستعمر الفرنسي. لم تشذ المناسبة، احتفالياً، عن طرق احيائها في السنوات الماضية فاختُزلت في بعض الفلكلور والندوات المهجورة وخُطب رسمية جوفاء، وأخيراً رسالة من الرئيس يقرأها مذيعو التلفزيون الحكومي كي تبدأ الصحافة رحلة تحليل مضمونها الطويل والمركّب لغويا بلا طائل.
لهذه الأسباب أُفرغت المناسبة من محتواها، وأصبحت، على الرغم من قدسيتها وأهميتها، عند كثير من الجزائريين، لا تعني أكثر من يوم راحة عن العمل مدفوعة الأجر.
جرت في هذه الذكرى وذكرى الاستقلال التي تصادف الخامس من تموز (يوليو) أن يشيد الحكام والمستفيدون من نظام الحكم ومزاياه بـ»ما تحقق من إنجازات عظيمة»، بينما يتجه خصوم السلطة إلى انتقادها واتهامها باستغلال المناسبة واستثمارها سياسيا. قدر الجزائر أن تستمر هذه الثنائية زمنا آخر لا يبدو قصيراً.
لو أحصى الجزائريون الوعود التي قدمها قادتهم في الخطابات التي يلقونها تكراراً بالمناسبة، لوجدوا الكثير، واكتشفوا بأسى أن لا شيء منها تحقق. ولو أحصوا الكلمات الجميلة والعبارات الأنيقة التي تُليت في المناسبة على مر الزمن لوجدوا أنها الأفضل في وصف تضحيات جيل الثورة والتغزل بها، لكنهم يكتشفون بمرارة أن القيم التي حملتها الثورة ووعدت بها، لم تتحقق ولا يوجد ما يشي بأنها ستتحقق.
بل تبدو البلاد سائرة في الاتجاه المعاكس للأهداف التي رسمتها الثورة ومن خطط لها ونفذها. تشرين الثاني/نوفمبر لم يعد يعني الكثير للجزائريين لأن ما انتزعه آباؤهم وأجدادهم من فرنسا بقوة السلاح والصمود، يعيده الذين يحكمون البلاد اليوم، وعلى رأسهم من يقال إنهم كانوا مجاهدين كبارا، لفرنسا بلا تعب أو عناء منها.
الجزائريون طردوا فرنسا بعد كفاح مرير ومعاناة تفوق الوصف في بعض الأحيان، لكن قادتهم يعيدونها اليوم قاصدين متعمدين، أو يعودون إليها بأكثر من شكل، وبطرق تهين الشهداء والضحايا وكل من غامر وخاطر بحياته آملا الإسهام في تعجيل خروج المستعمر: ممارسات وعقلية الحكام الجزائريين اليوم منحت المسؤولين الفرنسيين حق الاعتقاد بأن لهم الأولوية في الجزائر على غيرهم من قادة دول العالم. فرنسا هي الشريك التجاري الأول للجزائر على الدوام. الشركات الفرنسية تحظى بالأولوية في كل الصفقات والعقود الاقتصادية في الجزائر. الشركات التي تدير قطاعات الخدمات (المياه والمطارات) فرنسية اختيرت من طرف مسؤولين في الدولة الجزائرية، على الأغلب لا لنجاعتها الاقتصادية بل لجنسيتها. المسؤولون الجزائريون يخاطبون بعضهم وشعبهم بالفرنسية. الرئيس الجزائري يستقبل مبعوثا روسيا أو برازيليا فيخاطبه بالفرنسية. الوثائق الرسمية في دوائر الدولة والحكومة الجزائرية تحرر أولاً بالفرنسية ثم تترجم الى العربية، وقد لا تترجم. مجلسا الحكومة والوزراء تغلب عليهما اللغة الفرنسية بلا داعٍ. المسؤولون الجزائريون يختارون باريس لعلاج التهابات اللوزتين وإجراء الفحوصات الطبية الروتينية، ناهيك عن الوعكات الصحية الجادة. الرئيس الجزائري اختار، أو اختاروا له، فرنسا ليسلمها صحته ومرضه وكل أسراره الطبية ـ ومن ورائها أسرار مستقبل البلاد. الأغلبية الساحقة من الجزائريين يحلمون بنيل الجنسية الفرنسية، وآلاف منهم سعوا لها وبذلوا جهوداً وأنفقوا أموالا فوفق في مسعاه مَن وفق، وخاب من خاب. المدرسة الجزائرية منكوبة منذ الأزل وإلى الأزل وأحد أسباب نكبتها اللغة الفرنسية التي لا تعرف الجزائر ماذا تفعل بها، وهل يجب أن تعاديها أم تستفيد منها أم تمسحها من الوجود.
وحتى يكون المرء منصفاً عليه أن يقر بأن هذا الواقع المحزن والمخجل قديم وغير مرتبط بفترة حكم الرئيس بوتفليقة منذ 1999. تبعية الجزائر لفرنسا بدأت في اليوم التالي لإعلان الاستقلال في صيف 1962، وقد كان آنذاك أمراً مفهوما ومُبرَّراً، غير أنه استمر لاحقا، وإلى اليوم، على يد من قيل لنا إنهم قاتلوا فرنسا، وبلا مبرر لأن العالم ليس فرنسا وحدها.
لكن على المرء أن يقرَّ أيضا بأن هذا الواقع أصبح أكثر وضوحا وجرأة في عهد بوتفليقة وبتشجيع منه. بوتفليقة هو الذي فتح ذراعيه لفرنسا ومكنها من مصالح اقتصادية وتجارية وثقافية كبرى. هو الذي زار فرنسا ـ رسميا ـ أكثر من غيره من الرؤساء الجزائريين. هو الذي استقبل رؤساء فرنسيين بحفاوة فاقت حفاوة غيره من الرؤساء الجزائريين. هو الذي خدم اللغة الفرنسية في الجزائر أكثر مما فعل كل رؤساء الجزائر المستقلة مجتمعين. هو الذي أطفأ جذوة كانت سترسّخ في الجزائر مطلب إقرار فرنسا بجرائمها في الجزائر واعتذارها عنها، على الرغم من شعبوية الشكل الذي كانت تطرح به الفكرة، وحتى بعض مضمونها. لكن بوتفليقة قضى عليها تماماً، بإيجابياتها وسلبياتها لأنه يرفض إحراج المسؤولين الفرنسيين وربما لا يستطيع مواجهتهم ومطلب الاعتذار مرفوع هنا وهناك في الجزائر.
لا أحد يدعو الى مقاطعة فرنسا لأن لا حكمة ولا حنكة في ذلك، بل كل الجنون. لكن في المقابل، لا حنكة ولا حكمة أيضا في تسليم الجزائر لفرنسا بالشكل الذي نرى الآن والذي قد يرقى في بعض الأحيان إلى درجة الخيانة (فترد فرنسا بتفتيش وزراء جزائريين في مطاراتها تفتيشا جسديا مهينا كأنهم مهربو مخدرات).
الجزائر مدعوة إلى مراجعة علاقاتها مع فرنسا بتطبيع ينهي خنوع الأولى وأبوية الثانية. وكي تبلغ (الجزائر) ذلك تحتاج إلى حكام شجعان (تجاه فرنسا)، وشعب متصالح مع ذاته ليتسنى له النظر إلى فرنسا بواقعية.. لا تشنج ولا ذل.
توفيق رباحي: صحافي جزائري
مصدر المقال: القدس العربي
عزيزي (ة) القارئ (ة): ساهم في نشر ألف بوست في شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفايبسوك