مخاطر الإعلام المرئي والسمعي والمكتوب أنه يخلق كائناته المختلفة، فيعطيها عمرا، ويخط لها البدايات والنهايات التي يريد بحسب الحاجة، ويرتضيها الوضع المتسيّد. دعاية كبيرة صاحبت وتصاحب ظاهرة داعش؟ هل هي حقيقة موضوعية أم مجرد عمليه تسليع إعلامي، وإعادة تعليب لبضاعة قديمة اسمها القاعدة، إذ أنها المواصفات نفسها، والممارسات الإجرامية نفسها التي ظننا أنها وصلت إلى سقف توحشها، قبل أن نكتشف مع اغتيالاتها الأخيرة، أن داعش لا حدود لتوحشها، ولا حد لقوتها التخييلية في الجريمة، أي أنها تملك قدرة للرعب لم نتصورها مما يولد حالة الرعب والإحباط في النفوس.
هل في النهاية، داعش، بكل هذه القوة بحيث تخفق التحالفات الدولية مجتمعة في كسرها، كما حدث مع القاعدة التي انطفأت فجأة معها، لدرجة أن أصبح إبداعها الإجرامي محدودا، ويكاد لا يظهر؟ هل آليات داعش الإعلامية بلغت هذا الحد من التطور بحيث أصبح من الصعب مجاراتها؟ حتى مقتل الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، الذي تم إخراجه باحترافية وهلل له الإعلام كأنه حالة خارقة تزيد من قوة داعش، ليس في النهاية بكل هذه العظمة.
صحيح أن هناك احترافية في إخراج بعض المشاهد وكأنا في مواجهة فيلم ليست فيه الحركات إلا شيئا افتراضيا يقف من ورائه مخرج مميز، ولكن يجب أن نقول إن هناك آلات حديثة في الخدع السينمائية، تستطيع أن تفعل هذا من تلقاء نفسها، بحسب الحاجة، كالحركة البطيئة أو السريعة، ولحظات التوقف والتنويع في المشاهد، واللقطة الموسعة أو الضيقة الخ.
هناك اليوم برامج تستطيع أن تدخل عناصر خارجية في المشهد لتصبح جزءا منه وتخلق عالما افتراضيا مدهشا بالنسبة للمشاهد لا يمكنه إلا أن يصدقه لحظة المشاهدة. لهذا يجب أن تؤخذ عبقرية داعش سينمائيا بنسبية كبيرة. ما رآه العالم ليس دليل إدهاش وتقنية شديدة التطور.
نعرف جيدا عربيا على الأقل، أن الإسلاميين هم أول من تسلم نظام البرمجيات في الأسواق العربية وجعل منها تجارة مربحة، بل احتكر هذه السوق لأسباب نفعية وربما إستراتيجية. هناك حيثيات بسيطة يمكن الاتكاء عليها قبل التحليل، لا تحتاج إلى معرفة عظيمة. الكثير من قادتها دربوا في الغرب، في بريطانيا وغيرها بغطاء مالي عربي. وداعش، كسياق إيديولوجي، هي نتاج غامض من المقاربات الدينية المنغلقة والممارسات الإجرامية من قتل ومخدرات وسجون ويأس. بمعنى لا أفق كبيرا لها، لا في التخطيط العسكري أو المستقبلي. مكوناتها البشرية خليط من العرب والمسلمين الأوروبيين والأجانب القادمين من أركان العالم للدفاع عن إسلام مصنع تقوده المخابرات الدولية. ثم إن الأسلحة التي تمتلكها داعش ليست بكل هذا القدر الخارق من التفوق التكنولوجي، مهما بدت متطورة كالدبابات وغيرها وسيارات البيك آب التي نصبت عليها القاذفات والراجمات، لدرجة أن أصبح من الصعب التفريق بينها وبين الجيوش العربية النظامية التي تخسر المليارات على التسليح، وتستعمل الوسائل العسكرية البدائية والمتخلفة نفسها، التي ظهرت بقوة مع الثورات العربية. واضح أن داعش لا تملك أية إستراتيجية حربية إلا إستراتيجية الرعب واللعب على قوة الصورة، بالذبح والحرق وقطع الرؤوس. لا أقمار صناعية، المحددة لأي انتصار، ولا طيران، ولا رادارات تلتقط الصغيرة والكبيرة، ولا أجهزة تنصت منصوبة في الأماكن الأكثر سرية، ما عدا ما حصلت عليه من بعض الأنظمة العربية والغربية التي رأت فيها وسيلتها لإسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية، وتنشيط لوبيهات بيع الأسلحة في أمريكا وأوروبا، وإرضاء لوبي النفط وكارتيلاته بشرائه من مواقعه بأبخس الأثمان من داعش نفسها وأخواتها في الساحل الإفريقي، لدرجة إغراق الأسواق العالمية وسقوط سعر البرميل المرجعي. إذن من المستفيد من داعش؟ سؤال لا يستحق ربما تفكيرا كبيرا. من أين تأتي بهذه القوة؟ إذن التي تجعل منها سلطة مرعبة للعرب كلهم أنظمة وشعوبا. ربما هنا بيت القصيد. فبركة العدو المخيف والقوي مسألة ثابتة في السياسة الأمريكية، وتضخيمه أيضا مهم لحاجات في نفس يعقوب. هو ما حدث مع الرئيس صدام حسين الذي كان رهين الأسلحة الغربية لخوض حربه ضد إيران، وما يتكرمون ببيعه له. كانوا يعرفون الشركات المتعاونة معه، حتى شكل المسامير التي كانوا يبيعونها له. يصبح فجأة في الخطاب الأمريكي والأوروبي لاحقا، رابع قوة عالمية، ويتجه بخطى حثيثة نحو تصنيع القنبلة النووية العربية الأولى، وإنشاء منظومة عسكرية متطورة. مما جعل الدول العربية المحاذية له، التي ناصرته في حربه ضد إيران ترتعد من غد أسود لا أحد يضمنه في ظل التحولات الدولية وقتها. بدون الأخ الأكبر الوحيد المالك لمواجهة الدكتاتور الذي كان قد دفع بغباء إلى الاعتداء على دولة عربية مستقلة، الكويت، كل شيء سيتم تدميره. هذه السياسة لا جديد فيها وهو ما يدفع بنا اليوم إلى تأمل الظاهرة الداعشية لا كقوة جهوية، ولكن كجزء من الاستراتيجيات الدولية، لإنهاك الدول العربية ككيانات تبحث عن مخرج لتخلفها، وإدخالها في دوامة التلاشي والموت العنيف والبطيء. من هنا، فداعش ليست هدفا ولكنها وسيلة، مثلها مثل القاعدة. لها لحظة بداية فجائية ومرعبة، ولها أيضا نهاية أو لحظة تلاشي يتم التحكم في جوهرها.
قد تهرب بعض تفاصيلها لتعقدها، لكنها تنتهي وتذبل في النهاية ككل الحركات الإرهابية المصنّعة التي أملتها حاجة ما. أغلب المحللين والخبراء العسكريين، يعرفون جيدا أن داعش لن تصل إلى السلطة، مهما كانت الظروف وقسوتها، ولكنها ستظل في حرب استنزافية ضد العرب أنفسهم، متوسطة أو طويلة الأمد، وكلما اتسع تأثيرها، قصت أجنحتها، إلى يوم ينتهي دورها. الشعب العربي المهزوم، أو الذي خُطّط له أن يظل مهزوما، متعطش إلى قيادة مضادة للغرب ولو في الظاهر، ومضادة للسلطات غير الشرعية والنائمة على قرني ثور، يشعر من خلالها بوجود قوة ردعية تشفي الغليل، لكن ماذا تقدم له في النهاية من وسائط للتطور والخروج من التخلف؟ وهو بهذا يظل في عمق الهزيمة، لأن الذي يعيده إلى العصر ليست داعش بتخلف خطابها وبؤس رؤيتها، ولكن مواطنة حقيقية وعدالة اجتماعية مبنية على أسس ديمقراطية، وعقلانية متنورة، الوحيدة القادرة على إبعاده عن التطرف، وعصر الخرافة الذي ما يزال يعشش فيه. ما أحدثته داعش ومثيلاتها في النفسيات وفي العمران والحياة ورهانات المستقبل التي ماتت أو تكاد، لم يحدث في كل الحروب العربية السابقة. من هنا، حيوية وضرورة التفكير في هذه العناصر التفكيرية الأولية والعقلانية لاستعادة المبادرة، لأن إمكانات مستقبل آخر رهينة بها لمحاربة الرماد الذي يفرض على العرب كقدر قاتل لا يمكن الفكاك منه.
ليست داعش هي الخطر القاتل ولكن ما تغرسه في نفوس الأجيال القادمة التي تنشأ على اليأس والرعب. كل ضجيج داعش ليس في قوتها العسكرية، ولكن في القوة الإعلامية التي تسندها، والمال العربي الخفي الذي يبقيها على الحياة، والتكنولوجيا الغربية المتطورة التي تسمح لها بالاستمرار. هناك لعبة معقدة وشديدة الخطورة، لا يملك خيوطها إلا من يحركها. وهذه حقيقة وليست امتدادا لنظرية المؤامرة.
داعش قنبلة الموت العربي/ واسيني الاعرج
واسيني الأعرج