يعيش العالم على إيقاع كورونا فيروس، الفيروس التنفسي الذي يزرع الرعب بسبب غياب دواء مضاد فعال رغم أن الضحايا محدودين حتى الآن، وهناك قلق، ولو محدود، من تحوله إلى ما يشبه الإنفلونزا الإسبانية التي خلفت قرابة مئة مليون منذ قرن بعد التحذير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية. ويأتي فيروس كورونا ليبرز غياب التنسيق بين دول العالم في مواجهة الأوبئة بل أن البعض يجعل منها سلاحا فتاكا ضد آخرين.
أخطر وباء في تاريخ البشرية
واعتاد المؤرخون والصحافيون خلال الحديث عن أهم الأحداث التي طبعت تاريخ البشرية خلال القرن العشرين الإحالة على أحداث كبرى مثل الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية بسبب الخسائر الكبيرة في الأرواح وبحكم طابعها العالمي مقارنة مع حروب أخرى. ويختار البعض الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، ويوجد من يراهن على تأسيس العالم لهيئة الأمم المتحدة. والواقع أن أهم حدث في القرن العشرين إلى جانب وصول الإنسان إلى القمر، واستنادا إلى التأثيرات والخسائر البشرية المرتفعة، يبقى أهم حدث هو الإنفلونزا الإسبانية التي تحولت إلى وباء عالمي بل من أكبر الأحداث في تاريخ البشرية.
وخلف هذا الوباء ما بين 50 مليون قتيل وفق دراسات لمعهد باستور منذ عقود إلى مئة مليون قتيل حسب دراسات حديثة. ولم يسبق لأي وباء في تاريخ البشرية أن خلف نسبة عالية من القتلى في ظرف سنتين فقط بما في ذلك وباء الطاعون. ولم تخلف أي حرب بما في ذلك الحرب العالمية الثانية ما بين 1939-1945 أو جميع حروب القرن العشرين حصيلة ثقيلة مثل حصيلة هذا الوباء.
وكان عدد سكان العالم سنة 1918 عندما بدأ الوباء في الانتشار قرابة مليار و800 مليون، ويعتقد أن هذا الوباء أصاب قرابة ربع ساكنة العالم وقتل مئة مليون، وهو ما يشكل 5 في المئة من الساكنة وأقل التقديرات تشير إلى قرابة 3 في المئة. ووفق معطيات التاريخ، تتفوق إنفلونزا الإسبانية على الطاعون الذي ضرب العالم في القرون السابقة لاسيما في أوروبا خلال القرون الوسطى وفي الصين خلال القرن التاسع عشر، وذلك يعود إلى سبب رئيسي وهو انكماش المجتمعات القديمة على نفسها في ظل الإيقاع البطيء للتنقل بين الشعوب والبلدان والقارات، بينما سنة 1918 كان العالم بدأ يشهد دينامية قوية للتنقل.
ورغم أنها تسمى الإنفلونزا الإسبانية فهي ليست إسبانية المنبع ولم تظهر في هذا البلد الأوروبي بل فقط لأن العالم كان في حرب، وكانت الصحافة الغربية والسوفييتية وحتى الألمانية لا تتحدث عن الوباء بسبب الرقابة الحكومية لتفادي الإضرار بمشاعر وعزيمة شعوبها وجنودها. ولم تكن إسبانيا منخرطة في الحرب، ولم تكن الحكومة وقتها تمارس أي رقابة على الأخبار المتعلقة بهذا الوباء، وبالتالي كانت الصحافة الإسبانية هي الوحيدة التي تحدثت عنها سنة 1918 بينما الأخرى حتى سنة 1919 أي بعد نهاية الحرب بأكثر من سنة.
وظهرت أول مرة بشكل رسمي في بلدة فورت ريلي في ولاية كانساس الأمريكية سنة 1918 بينما مؤرخو الأوبئة والتاريخ الأمريكي يتحدثون عن سنة 1917 وفي الصين أساسا، وامتدت إلى سنة 1920. وتفيد التقديرات التي أنجزها باحثون خلال السنوات الأخيرة بموت قرابة مئة مليون، أي 20 في المئة من مجموع المصابين في العالم وقتها، وهذا يعني أن عدد المصابين اقترب من نصف مليار. وهي أرقام مذهلة. وتختلف أرقام الضحايا من دولة إلى أخرى، فقد توفي في الولايات المتحدة قرابة 600 ألف، بينما في الصين قرابة 12 مليون، ويؤكد المؤرخ نييل جونسون أن 18 مليون توفوا بهذا الوباء في الهند. ولا توجد وثائق دقيقة حول نسبة الوفيات في العالم العربي، وكلنها تقترب من خمسة ملايين، وكانت الأعلى في شمال افريقيا في دول مثل المغرب والجزائر بسبب القرب من أوروبا وبسبب ضعف البنيات الصحية. ويوجد عامل آخر وهو عودة الجنود العرب الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا وبريطانيا وكذلك الجنود الأوروبيين الذين توجهوا إلى العالم العربي الذين كان تحت الاستعمار في معظمه.
وكان الأطباء يتعاطون مع إنفلونزا الإسبانية على أساس أنها زكام عادي في البدء، لكن اكتشفوا لاحقا الفرق القاتل، الإنفلونزا العادية تصيب الملايين وتقتل سنويا قرابة نصف مليون خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، لكن الإنفلونزا التي تحمل في طياتها طابع الوباء تهدد البشرية. ولهذا الإنفلونزا العادية خلفت ما بين سنتي 1917 إلى 1921 قرابة 600 ألف قتيل، بينما الإنفلونزا الإسبانية فقد خلفت مقتل مئة مليون في سنتين.
ومن باب المقارنة الحالية، تفيد التقارير الحالية بوفاة قرابة 600 ألف بالإنفلونزا العادية سنة 2019 في العالم، لكن كورونا فيروس، التي لم يتجاوز عدد المصابين حتى نهاية الأسبوع الجاري 82 ألف وأقل من ثلاثة آلاف قتيل، إذا انفلت من السيطرة الطبية وتحول إلى وباء، فعدد الضحايا لن يقل عن عشرات الملايين. وهذا هو السبب الذي يجعل المنظمة العالمية للصحة تنبه العالم إلى اتخاذ الإجراءات السريعة للتحرك قبل فوات الأوان لاحتواء الفيروس. وتأمل هيئات الأطباء باحتواء المرض قبل انتشاره، ولهذا تنخرط مختلف الهيئات من صحة وجيش وشرطة وأخرى في الإجراءات الفعالة مثل المراقبة في المطارات والحجر الصحي وإغلاق المدارس.
ومن باب المقارنة كذلك، ما زالت أوبئة فتكت بالبشرية في القرون الماضية حاضرة ومنها الطاعون، لكن تتم السيطرة عليه بشكل سهل نوعا ما. فقد سجلت مدغشقر 1200 حالة سنة 2017 ومات 180 شخصا وجرى احتواءه دون انتشاره في مجموع البلاد أو الانتقال إلى مناطق أخرى آسيوية وافريقية بل لم يحظ بأي اهتمام إعلامي.
ضعف البحث العلمي وغياب التنسيق
يأتي فيروس كورونا في الوقت الحالي لتبرز التحديات التي تواجهها البشرية وهي عموما غياب التنسيق بين الدول وضعف البحث العلمي. في هذا الصدد، لا يوجد أي دواء فعال ضد كورونا فيروس باستثناء محاولة تعزيز المناعة أحيانا بالأدوية الخاصة بالسيدا ثم استعمال أدوية بسيطة مثل باراسيتامول للتخفيف من الحرارة. ورغم مرور قرن على الإنفلونزا الإسبانية، لم ينجح العلم حتى الآن في ايجاد دواء ضدها، ولهذا يحذّر العلماء بعض المختبرات الأمريكية من إيقاظ هذا الفيروس وإجراء أبحاث عليه لأنه قد يخرج من السيطرة.
ويأتي كورونا فيروس، ليبرز ضعف التنسيق بين الدول، إذ يجري التنسيق في محاربة الإرهاب، ويجري إنشاء تكتلات عسكرية، ويجري التنسيق في الصناعة العسكرية، ولكن لا يجري التنسيق ضد الأوبئة. ولهذا، عندما يأتي وباء معين، لا يفرق بين المسلم والمسيحي أو اليهودي أو ديانة أخرى. ولا يفرق بين دولة غنية وأخرى فقيرة، ولا يفرق بين شخص في زيمبابوي وآخر في هوليوود. ولعل الأخطر، هو بدل التنسيق، هناك دول أجرت بحوثا حول تحويل الأوبئة إلى أسلحة فتاكة في الحروب المستقبلية. ولهذا تحضر فرضية المؤامرة حول فيروس كورونا، وهذا حديث آخر.