من فضلكم لا يوجد فقط المرشح الجمهوري دونالد ترامب بطروحاته المتطرفة، بل يوجد المرشح الديمقراطي بيرني ساندرس الذي يقدم مقترحات انتخابية مهمة وجريئة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية خلال العقود الأخيرة، لكن إعلامنا العربي يتفاهت فقط على «التصريحات الاستعراضية» لترامب.
هذا الأخير تحول الى ما يشبه كاوبوي الذي كان في القرن التاسع عشر يبحث عن الإعلانات حول «الخارجين عن القانون» لملاحقتهم للفوز بالمكافأة. وينتظر دونالد ترامب ما تحمله وسائل الإعلام من أخبار مأساوية ليقدم وصفات جاهزة للحل. لم يتراجع عن طروحاته الرئيسة، وهي ضرورة مواجهة الصين عبر عودة الشركات الأمريكية للتصنيع في الأراضي الأمريكية والتقليل من اللاتينيين وخاصة المهاجرين المكسيكيين، ولكنه يستغل كل حادث سياسي طارئ للاستفادة منه انتخابيا. وما أن وقع اعتداء إرهابي في كاليفورنيا، وخلف قتلى، حتى أطلق تصريحات معادية للمسلمين، تراجع عنها نسبيا بعد الضجة السياسية والانتقادات من الأمريكيين أنفسهم.
نعم، لا يوجد فقط دونالد ترامب، يوجد كذلك بيرني ساندرس في الحزب الديمقراطي الذي بدأ يهدد فوز هيلاري كلينتون بتمثيلية الحزب الديمقراطي. سياسي يمثل الجناح الاشتراكي للحزب الديمقراطي، ولا يتردد في وصف نفسه بـ»الاشتراكي الديمقراطي». بدأ ساندرس، البالغ من العمر 74 سنة ويمثل ولاية فيرمونت منذ عقدين في الكونغرس، يقدم مقترحات كانت حتى الأمس القريب من التابوهات في بلد مثل الولايات المتحدة، يعتبر نفسه الحارس الحقيقي لليبرالية فكرا وممارسة، ويرفض كل مقترح يشتم منه رائحة الاشتراكية. كتاب الأعمدة في وسائل الإعلام المحافظة واليمينية أو الليبرالية المتطرفة ينهالون عليه باتهامات بالشعبوية، ومقارنته بزعماء أمريكا اللاتينية مثل هوغو تشافيز الفنزويلي أو إيفو موراليس البوليفي. وهذه الاتهامات نابعة من جرأة مقترحاته. في هذا الصدد، لا يتردد في القول بضرورة تعميم التعليم المجاني في كل المراحل، بما فيها المرحلة الجامعية. مقترح يهدد القروض الدراسية التي لا تقل حجما عن قروض السكن.
يجهر بضرورة أن توفر دولة غنية بحجم الولايات المتحدة الصحة ومجانا لجميع مواطنيها، ويشيد بالنموذج الأوروبي المعمول به في هذا المجال. بصوت واثق من نفسه، يقول على الولايات المتحدة الاستفادة من تجربة الدول الإسكندنافية التي نجحت في إضفاء طابع إنساني على الرأسمالية. مقترح يثير أعصاب المؤسسات الطبية والمالية، بحكم أن استثمار القطاع الخاص والأرباح التي يجنيها وراء الصحة هي على رأس القطاعات في الولايات المتحدة وتفوق حتى صناعة الأسلحة. يحمل أفكارا يسارية في مواجهة وول ستريت بضرورة تحجيم دور المؤسسات المالية والبنوك في الحياة السياسية في الولايات المتحدة، ويقول «الاقتصاد الحقيقي ليس تباري من يمتلك يختا أكبر بل الذي يوفر الدراسة والصحة للطفل». ويكتب مايكل كازين أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون أن هذه المقترحات هي التي جعلت نجم ساندرس يسطع ويجذب الشباب والتقدميين ويمنح لليسار فرصة الترشح للبيت الأبيض بعد غياب طويل للغاية.
والمفارقة هو أن ساندرس الاشتراكي الديمقراطي هو سيناتور عن ولاية محافظة ومزارعة مثل فيرمونت، ولم يقنع شركات كبرى بدعم حملته ماليا، كما تفعل مع منافسته في الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، ولكنه جمع 42 مليون دولار من تبرعات ساهم فيها 640 ألف شخص، وهو ما لم يحققه أي مرشح آخر من قبل، حيث يعتمدون على تبرعات كبيرة من شركات ورجال أعمال. عندما أعلن ساندرس ترشحه للانتخابات خلال مايو 2015، اعتقد الكثيرون أنه سيقوم بدور أرنب السباق في مواجهة هيلاري كلينتون، ولكن في ظرف ستة أشهر فاجأ الجميع. وهو يكرر سيناريو دونالد ترامب، حيث كان اعتقاد الكثيرين أنه سيكون ثانويا في مواجهة مرشح المؤسسات الجمهورية جيف بوش شقيق الرئيس السابق وابن الرئيس الأسبق، وإذا بترامب يتصدر الحزب الجمهوري. وها هو ساندر يكاد يتصدر الحزب الديمقراطي. في الوقت ذاته، نجح بيرني ساندرس في إقناع الطبقة العاملة البيضاء التي مالت خلال الشهور الماضية الى دونالد ترامب. فبيرني يحمل أفكارا اقتصادية منها معارضة الاتفاقيات التجارية الكبرى للهادي التي ترغب واشنطن في توقيعها، وتتخوف منها النقابات الأمريكية.
خطاباته أصبح لديها وقع سحري على السود واللاتينيين وجزء مهم من الناخبين البيض، وليفسر مقترحاته للرأي العام يقول «أنا أتبنى طرح فرانكلين روزفلت بعد أزمة 29، جميع المواطنين لهم الحق في العمل والراتب المحترم والصحة والتربية والسكن والضمان الاجتماعي». عندما يذكر روزفلت يجعل عددا من المحللين المعارضين له يصمتون ويقنع الشباب أكثر، وهو الذي يعاني بدوره من أزمة 2008 ومن القروض الجامعية.
السياسيون والمفكرون التقدميون في الولايات المتحدة يعتبرون دور بيرني ساندرس مهما، فهم لا يحلمون بوصوله إلى البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة، ولا يمكن استبعاد مفاجآت، ولكنهم يرون في ساندرس بداية موجة سياسية حقيقية لبناء بديل تقدمي مستقبلا في البلاد، وتحريك المجتمع المدني نحو اختيارات سياسية مغايرة. وهذا ما جعل مفكر من وزن ناعوم تشومسكي الرافض للمؤسسات الأمريكية يعلن دعمه وتصويته لبيرني ساندرس.
قد لا ينجح بيرني ساندرس في الانتخابات الرئاسية، لكن نجاحه الحقيقي بدأ يتبلور في تحريك المشهد السياسي الأمريكي بمقترحات جريئة قد تساهم في تغييرات مستقبلية. فقد أعاد الاعتبار للفكر الاشتراكي الاجتماعي في الولايات المتحدة، وكشف استطلاع للرأي أجرته جريدة «نيويورك تايمز»، سي بي سي بول خلال نوفمبر الماضي أن 56% من أعضاء الحزب الديمقراطي لهم نظرة إيجابية عن الاشتراكية و29% فقط ضدها. ونجح كما تكتب «نيويورك تايمز» في تحريك الشباب الذين هم عماد مستقبل الحزب الديمقراطي والولايات المتحدة.
هل سيصبح الاشتراكي الديمقراطي بيرني ساندرس رئيسا للولايات المتحدة؟
المرشح الديمقراطي بيرني ساندرس