سيطرت الولايات المتحدة في العقود الأخيرة على مجال الأبحاث العلمية مع منافسة دائمة من دول الاتحاد الأوروبي، وساهم هذا الاهتمام الكبير والتمويل المتزايد، في ضمان منحنى متصاعد من التقدم في مجالات متعددة مثل الطب والصناعات المختلفة، لكن العقود الأخيرة شهدت صعودًا للصين بشكل غير قابل للإنكار، إلى الدرجة التي جعلت الكثير من المتخصصين يتوقعون للصين أن تزيح الولايات المتحدة الأمريكية من فوق عرش ريادة مجالات البحث العلمي والتقنية في القرن الحالي.
الحكومة الصينية تؤمن بالعلم
ترى الحكومة الصينية أن الاهتمام بالأبحاث العلمية والتقنية هو المفتاح الأهم لاستكمال النهضة الصناعية التي شهدتها البلاد في القرن الماضي لتصبح ثاني أقوى اقتصاد في العالم. من هذا المنطلق، انطلقت الحكومة الصينية في صناعة خطوات حقيقية لدعم المجتمع الصيني العلمي والتقني بكل السبل التي يتطلبها للقيام بدوره كأداة فعالة لنهضة الأمة الصينية اقتصاديًا. واحدة من أهم هذه الخطوات كانت «البرنامج القومي متوسط وبعيد الأجل لتطوير العلوم والتكنولوجيا» الذي قدمته الحكومة الصينية للمرة الأولى عام 2006.
يهدف البرنامج تحقيق قدر هائل من التطور لمجالات البحث العلمي والتقنية في البلاد عن طريق تعزيز القدرة على الابتكار المحلي بشكل كبير، وكذلك رفع المستوى التعليمي لهذه المجالات في المراحل التعليمية المختلفة، ما سيؤثر على القرارات الاقتصادية المتعلقة بزيادة الموارد المخصصة لدعم الأبحاث العلمية والتقنية. سيكون الهدف البعيد لهذا البرنامج هو تحقيق قدرة كبيرة على التأثير في مجالات البحث العلمي والتقني على المستوى العالمي، واختراق قوائم الدول الأكثر إسهامًا في مجالات العلوم والتقنية، وأن تصبح الصين القوة العلمية والتقنية الأبرز في العالم مع حلول عام 2050.
أما الهدف متوسط الأجل الذي جاء في هذا البرنامج، فكان أن تصل الصين في عام 2020 إلى أن تصبح واحدًا من مراكز الابتكار والتقنية في العالم، وفي كثير من التقديرات فإن الصين استطاعت بالفعل أن تحقق هذا الهدف حتى قبل حلول عام 2020 وذلك بالنظر إلى الإنتاج الذي تساهم به الصين في الأبحاث العلمية من حيث العدد والتأثير في المجتمع العلمي. كذلك، كان من بين أهداف البرنامج أن يرتفع الإنفاق على الأبحاث العلمية والتقنية إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، ويهدف ذلك القرار إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية في الصناعة الصينية، وبالتالي التأثير الخارجي على حركة الاقتصاد المحلية.
سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على صدارة عملية الإنتاج العلمي والمعرفة العلمية في القرن الماضي، مع مشاركة دائمة من دول الاتحاد الأوروبي، في عام 1994، تفوقت كتلة دول الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة الأمريكية من حيث عدد الأبحاث العلمية المنشورة في مجلات علمية مرموقة. ظهور الصين بدورها في هذه القائمة كان قويًا إلى الدرجة التي أصبحت فيها الصين في السنوات الأخيرة ثاني أكثر دولة إنتاجًا للأبحاث العلمية بعد الولايات المتحدة، لتتخطى بذلك الوجود التقليدي لكل دول الاتحاد الأوروبي واليابان.
الأكبر في العالم.. الصين تفوز بتحدي السمعة
في إحدى المدن الريفية البسيطة، مدينة جويزو، في الجنوب الغربي للبلاد، تقرر الحكومة الصينية إنشاء بوابة جديدة وعملاقة في طريقها الطويل نحو المستقبل. جسم معدني أسطواني الشكل، كأنه وحش أسطوري عملاق يبلغ طوله 500 متر، وينظر دائمًا للسماء، إنه التليسكوب العملاق، والذي ربما سيكون الأضخم في العالم، وسوف يتيح للبشرية منظورًا جديدًا أبعد مما نستطيع الوصول إليه الآن. سيتكلف هذا المشروع العملاق ما يوازي 185 مليون دولار.
على جانب آخر، تدخل الصين مرحلة جديدة من الشراكة في مشروع فلكي آخر، سيكون هو الأضخم من نوعه، وبمشاركة 19 دولة، ستكون الصين من اللاعبين الأساسيين به، وهو«مصفوف الكيلومتر المربع»، وهو مشروع تليسكوب عملاق آخر، تبلغ مساحته الكلية كيلومترًا مربعًا، وسوف يستخدم لقياس الأشعة الكهرومغناطيسية القادمة من أعماق الكون البعيد، ما سيعمق معرفتنا عن كل ما يثير مخيلتنا نحو الكون ونشأته، ومادته المظلمة والطاقة المظلمة.
بالنسبة للصين، فإن شرف إنشاء أول طبق استقبال عملاق في هذا المشروع سيكون أكثر من كافٍ لحصول الجمهورية الصينية على شرف تدشين مثل هذا المشروع التاريخي، وبالنسبة للبشرية، فإن هذا المشروع سوف يمكننا من مسح السماء بنمط أسرع 10 آلاف مرة من إمكانياتنا الحالية.
يعاني العالم في حاضره ومستقبله من أزمة الاحتباس الحراري الذي يرى العلماء أنه يهدد الحياة على الكوكب بالشكل الذي نألفه؛ يحدث ذلك لأسباب عديدة من أهمها استخدامنا أنواعًا من مصادر الطاقة شديدة الكلفة على نظامنا البيئي بالكامل، من هنا أصبح الانطلاق نحو مصادر الطاقة النظيفة أمرًا لا مفر منه. في هذا الاتجاه، أعلنت الصين عام 2017 عن افتتاحها أكبر مزرعة طاقة شمسية في العالم في مدينة كينغاي، وهو الأمر الذي يعكس رغبة الصين في التحول إلى الطاقة النظيفة، بل وقيادة العالم إلى هذا الاتجاه الذي يخدم المصلحة العليا للبشرية.
هناك أمثلة عديدة على الرغبة الصينية الحقيقية في صناعة السبق، وأن يقترن اسم الصين بالإنجازات العلمية، والرغبة الحقيقية في تصدير لغة العلوم لتصبح المتحدث الرسمي للبلاد في النقاشات الدولية، ويبدو أن لعبة «السمعة» هذه تنجح بالفعل. هذه السمعة العالمية، إضافة إلى عوامل أخرى بالتأكيد، أصبحت عاملًا كبيرًا في تغيير حركة تنقلات العقول العبقرية في مجالات العلوم المختلفة في العالم.
الآن، وبعد أن كانت كتلة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تسيطران على مراكز جذب العقول العبقرية في العلوم، أصبحت الصين منافسًا قويًا في هذه المسألة، وقد رصدت دراسةٌ هذه الظاهرة بشكل يثبت النجاح الكبير والمستمر للحكومة الصينية في هذا الشأن، أن تصبح الصين مركز جذب للباحثين والمتخصصين في المجالات البحثية المختلفة.
علم من أجل العلم
عندما نطالع البرنامج القومي متوسط وبعيد الأجل لتطوير العلوم والتكنولوجيا، نجد هناك غيابًا تامًا لأي هدف اقتصادي أو تجاري مباشر يجب تحقيقه كمقياس لنجاح البرنامج أو أي بنود منه، يأتي ذلك رغم أن تدشين الحكومة الصينية لكل المشروعات العملاقة المذكورة، سيكلف خزينة الدولة مئات المليارات من الدولارات، نظرًا لاعتماد الكثير من هذه المشروعات في عملية تمويلها على الحكومة، وليس القطاع الخاص في البلاد. هذا التجاهل النسبي لقيمة «العائد الاستثماري» يُعدّ مؤشرًا للدلالة على إيمان الحكومة الصينية بحرية البحث العلمي، وعدم تقييدها بأي ضرورات اقتصادية أو تجارية تؤثر على العملية بأي طريقة.
لا يعني هذا الأمر أن الحكومة لا تتوقع من هذه المشروعات أي نجاحات اقتصادية كبيرة على المستوى طويل الأجل، بل يعني أنها تؤمن بأن البحث العلمي والتقني سوف يكون، في مرحلة ما، قاطرة التقدم الاقتصادي والتجاري للبلاد. لكن هذه النتائج الاقتصادية لا يجب أن تكون سابقة على الرغبة في إعلاء قيمة العلم.
من هذه النقطة، فإن المعاهد والجامعات والباحثين، سيواجهون أقل قدر من العراقيل والعوائق في طريق تحقيق إنجازات علمية حقيقية. تعلم الحكومة الصينية أن العائد الاقتصادي لهذه المشروعات العملاقة سوف يكون بعد عقود، أو ربما قرون من الآن؛ لهذا تضع الحكومة أهدافًا أخرى لهذه المشروعات يمكن تحقيقها في الأجل القريب، مثل وضع الصين على خارطة الدول الرائدة في هذه المجالات.
قيود أخلاقية أقل.. إبداع أكثر
رصدت الكثير من الدراسات المحلية والعالمية ظاهرة تخص مجال الأخلاقيات العلمية التي يجب اتباعها أثناء إجراء الأبحاث العلمية على الحيوانات والإنسان على حد السواء. هناك تضارب واضح بين رغبة الصين في أن تصبح رائدة لدول العالم في مجالات الأبحاث العلمية المختلفة، والأكواد الأخلاقية التي يطبقها المجتمع الغربي والولايات المتحدة، ويتوقع من دولة بحجم الصين أن تهتم بها، وتجعلها أولوية حقيقية يُنظر إليها قبل إجراء أنواع محددة من الأبحاث المثيرة للجدل.
تتعلق هذه المعضلات بأشياء أصبحت محل اتفاق في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، مثل الموافقة المثبتة، ومسئوليات الباحثين، وحقوق الأشخاص أو الحيوانات موضع التجارب والأبحاث، والحدود التي يجب أن يُنظر إلى هذه العوامل عندها مقارنة بالمجتمع العلمي الدولي. تعترف الصين في الوثائق التنظيمية الخاصة بإجراء التجارب التي تتضمن البشر بالمبادئ الدولية المتفق عليها، وتشير الوثائق المحددة للشروط الأخلاقية صراحة إلى إعلان هلسنكي الصادر عام 2004 كمرجع عام لتلك الأنواع من الأبحاث.
حدود هذا التشابه بين المبادئ التي تحدد شروط إجراء التجارب لا تتوقف عند التجارب التي تتضمن البشر فقط، لكنه ينسحب أيضًا على الوثائق التي تحدد أخلاقيات البحث في المجالات المختلفة لتصبح مطابقة لمثيلاتها في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. تكمن المشكلة في فارق تطبيقي وقانوني، وهو أن الحكومة الصينية لم تسن القوانين التي تجبر المؤسسات العلمية على الامتثال لهذه القواعد الأخلاقية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهنا يكون المجال مفتوحًا لبعض المؤسسات للتملص من هذه المبادئ في بعض التجارب والأبحاث. على جانب آخر، فإن غياب هذه القوانين سمح للصين باكتساب شهرة عالمية بقبول إجراء التجارب المثيرة للجدل والنقاشات الأخلاقية على أراضيها. الأمثلة على هذا النوع من التجارب التي أجرتها الصين، رغم انتقادات المجتمع الدولي كثيرة، مثل تجربة البروفيسور كانافيرو لنقل رأس لجثة بشرية، وتجربة استنساخ توأمين من قردة المكاك بنفس طريقة النعجة دوللي.