لماذا تصمت شعوب الغرب عن دعم حكامها للديكتاتوريين العرب؟ د. حسين مجدوبي

رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ورئيسة حكومة بريطانيا تريسا ماي من أكبر المدافعين عن الحكام العرب الفاسدين

تاريخ الغرب اتجاه الآخر، خاصة العربي، هو تاريخ تشوبه الكثير من التناقضات الصارخة. فبينما كانت شعوب الغرب منذ القرن الثامن عشر ترسي دعائم الديمقراطية والحرية السياسية والعقائدية، كانت حكوماتها تستعمر باقي العالم، والآن تدعم الأنظمة الديكتاتورية. ولم ترفع هذه الشعوب صوتها لتطالب بوقف هذه الممارسات. ومن خلال قراءة التاريخ، يمكن التوقف عند محطتين مهمتين في هذا الشأن: وهما:
*المحطة الأولى، بالموازاة مع بدء ثورات التحرر السياسي في الغرب، ابتداء من القرن الثامن عشر وأساسا القرن التاسع عشر، قامت أوروبا بغزو العالم، خاصة مناطق معينة مثل القارة الإفريقية والعالم العربي والإسلامي عموما. وفي حالة فرنسا، لم تصدّر الى الجزائر ولاحقا المغرب وتونس ودول إفريقية أخرى أفكار فولتير ومونتسكيو، بل الفكر العسكري الاستعماري. وبدورها، لم تستفد المستعمرات البريطانية من الإصلاحات الليبرالية خلال العهد الفيكتوري. وصمتت الشعوب الغربية على جرائم القوى الغربية الاستعمارية، ومنها تلك الجرائم البشعة التي ارتكبها ملك بلجيكا ليوبولد الثاني في الكونغو. نعم، كانت هناك أصوات سياسيين ومفكرين تندد بالسياسة الاستعمارية، لكنها كانت تضيع وسط صمت الأغلبية المطلقة من الشعوب الغربية، التي قبلت عموما بالممارسات الاستعمارية. وعن أسباب هذا الصمت، قد تتعدد الأجوبة انطلاقا من زوايا المعالجة، ويمكن حصرها في ثلاثة، وجود فئة من المفكرين والمواطنين من اعتقد بالرواية الرسمية التي تقول بدور الغرب في إدخال الحضارة والتقدم إلى مناطق «متوحشة» في إفريقيا وآسيا. قد نتفاجأ إذا علمنا أن من ضمنهم أحد أعمدة الأدب الفرنسي والعالم، الروائي فيكتور هوغو الذي أثنى على الاستعمار. ثم وجود فئة مهمة من المواطنين، الذين جعلهم النظام الرأسمالي يستفيدون من خيرات المناطق المستعمرة، ويكفي استحضار المستوطنين الأوروبيين، وكيف كانوا يتمتعون بخيرات هذه المناطق. وأخيرا وجود فئة من المواطنين تهتم بالقضايا الداخلية فقط، ولا يهمها ما يجري خارج حدود بلدها.
*المحطة الثانية، ناضلت الشعوب في القارة الإفريقية والآسيوية عقودا طويلة لتحقيق الاستقلال. وبعد الاستقلال لم يساهم الغرب، حكومات وشعوبا في دعم الديمقراطية في المستعمرات السابقة، بل دعم أنظمة فاسدة أقامت ديكتاتورية ونهبت ممتلكات شعوبها. فكان السلاح الغربي يقمع المناضلين، وخبرة الاستخبارات الغربية في خدمة الأنظمة الفاسدة، للقضاء على أي بديل سياسي، بينما استقبلت البنوك الغربية الممتلكات المنهوبة. هذا الوضع يستمر في وقتنا الراهن، أي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. ويبقى الوجه المشرق الوحيد لسياسة الغرب تجاه العالم الثالث، هو تلك الجمعيات الحقوقية التي تفضح خروقات حقوق الإنسان في دول مثل العالم العربي، ومؤسسات تندد بالفساد المالي، لكن رغم تأثيرها الإعلامي يبقى تأثيرها السياسي بدون نتائج، تجعل الحكومات الغربية تتخذ قرارات لمصلحة الشعوب في المستعمرات السابقة.
وعند اندلاع الربيع العربي سنة 2011، الذي شكل منعطفا حقيقيا بمحاولة انتقال الشعوب نحو الديمقراطية، اعترفت بعض الدول الغربية بأخطائها في دعم أنظمة ديكتاتورية. وتابع الرأي العام الغربي باهتمام كبير نضالات نظيره العربي لتحقيق الديمقراطية. لكن القوى المضادة للربيع العربي، وهي أنظمة الخليج وعلى رأسها الإمارات العربية والسعودية كسرت إيقاع التحرر في العالم العربي. وهذا ليس مفاجئا من طرف أنظمة تعيش في القرن الواحد والعشرين وتتصرف بمنطق القرون الوسطى. لكن المفاجأة هي السياسة التي انتهجها الغرب مجددا. لقد عادت الدول الغربية الى دعم الأنظمة العربية الديكتاتورية، تصمت على جرائم مصر في عهد عبدالفتاح السيسي، ولا ترغب في رؤية جرائم النظام السعودي في اليمن. وعادت البنوك الغربية لتستقبل الأموال المهربة من العالم العربي.
وتبرر الأنظمة الغربية صمتها بأنه يستحسن دعم أنظمة مثل مصر والسعودية والجزائر والمغرب، بدل سقوط المنطقة في يد حركات إرهابية مثل «داعش» و»القاعدة»، متناسية أن غياب الديمقراطية ونهب ممتلكات الشعوب، بكل ما يخلفه من حرمان ويأس وبطالة، هو الوقود الحقيقي لظهور التطرف في العالم العربي. ولكن إذا كانت الأنظمة الغربية تنهج هذه السياسية بمنطق البراغماتية في العلاقات الدولية للمحافظة على مصالحها، نطرح التساؤل العريض: لماذا تصمت الشعوب الغربية على الممارسات البشعة لحكوماتها في قضايا العلاقات الدولية؟
لقد اعتادت هذه الشعوب معاقبة سياسييها من رؤساء الدول والحكومات، بل حتى المستشارين في البلديات خلال الانتخابات، إذا لم يلتزموا بالبرامج التي تعهدوا بها في الحملات الانتخابية، لكن لماذا لا تمتد المحاسبة إلى السياسة الخارجية؟ معظم الأحزاب السياسية تخصص حيزا مهما للسياسة الخارجية في برامجها السياسية، تدافع عن التعاون وتتعهد بنشر قيم الديمقراطية في دول العالم الثالث، ومنها العربية. لكنها بمجرد وصولها إلى الحكم لا تطبق هذه التعهدات. في الوقت ذاته، الشعوب لا تحاسب هذه الحكومات عند كل موعد انتخابي. لكن يحصل العكس، فجزء من الشعوب الغربية يمتلك وعيا في الاتجاه المعاكس. ذلك أن قضايا التطرف والهجرة هي من النتائج المترتبة عن دعم الغرب للأنظمة الديكتاتورية الفاسدة، وهذه الظواهر تقلق الإنسان الغربي كثيرا، وبدأ البعض يرتمي في أحضان اليمين المتطرف، مراهنا على هذه الأحزاب للحد من الهجرة والتطرف الإسلامي، لكن هذا ليس الطريق الصحيح، بل هو طريق خاطئ. الحل هو محاسبة الأحزاب على سياستها في دعم الأنظمة الديكتاتورية.
في لحظات تاريخية معينة، تقبلت الشعوب الغربية إنهاء أبشع مظاهر استغلال الإنسان للإنسان، العبودية بفضل طروحات مفكري إنهاء العبودية. وهي مطالبة اليوم بتبني الوعي نفسه كحلقة ضمن حلقات تطور الوعي العميق بالمساواة. مطالبة بالضغط على حكوماتها للحد من دعم الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة، خاصة تلك الواقعة جنوب البحر المتوسط. ضغط يجب أن يتجلى في محاسبتها في الانتخابات على مدى احترامها وتطبيقها لتعهد نشر قيم الديمقراطية.
سيكون ذلك من أهم الخطوات ومساهمات الشعوب الغربية في إرساء الديمقراطية في مناطق منها العالم العربي. وتحقيق هذا الحلم هو رهين بظهور فئة من السياسيين والمفكرين ينشرون هذا الوعي. مفكرون ورجال دين من طينة جون ويسلي وجون جاي وفيكتور سشولشر، بلوروا الفكر المناهض للعبودية في القرن 18 و19، فمن سيبلور فكرا صلبا في الغرب بشأن أحقية الشعوب العربية للعيش في الديمقراطية، ويفرض هذا الفكر على الحكومات الغربية حتى لا تدعم الديكتاتوريين؟ الكلمة الأخيرة تبقى للشعوب العربية صاحبة المصير، لكن دعما من الشعوب الغربية بوقف دعم حكوماتها للديكتاتوريين العرب سيكون أمرا مهما للغاية.

Sign In

Reset Your Password