إنخرطت وسائل الإعلام، بالإجماع، علي مدي الأسابيع الأخيرة، في مهمة شجب قرارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن شبه جزيرة القرم أولا، وأوكرانيا الآن، إلي خد أن مجلة “إيكونوميست” نشرت علي غلافها رسما لدب يبتلع أوكرانيا… بعنوان “لا يشبع”.
يعد إجماع وسائل الإعلام علي قضية ما أيا كانت، مصدرا للقلق دائما، فقد يخفي في هذه الحالة رد فعل عفوي، غير محسوب، بل وخامل، تجاه جمود الحرب الباردة بعد 40 عاما من إختفائها نظريا.
فمثلا: قل أو إكتب: “الرئيس الشيوعي راؤول كاسترو” وستري أن أحدا لن ينتبه لمثل هذا الوصف. ثم إستخدم نفس الأسلوب وقل أو إكتب: “الرئيس الرأسمالي باراك أوباما” وسرعان ما ستنهال عليك ردود الفعل المستغربة بل والناقدة.
ومثال آخر: هنا، في إيطاليا، نجح سيلفيو برلسكوني في إستمالة الناخبين لصالحه علي مدي 20 عاما، بفضل تحذيراته ضد تهديد “الشيوعيين” وخطرهم. والآن، لا تزال تراه يسمي أعضاء الحزب الديمقراطي اليساري -الحاكم مع الكاثوليك الملتزمين- برئاسة ماتيو رينزي، بـ “الشيوعيين” أيضا.
هناك على الأقل أربع نقاط للتحليل، عادة ما تفتقدها جوقة الإعلام الدولية.
الأولي هي إنعدام أي إشارة كانت، إلى مسؤوليات الغرب في هذا الفصل الجديد من الحرب الباردة. وقد يكفي التذكير بأن ميخائيل غورباتشوف إتفق في حينه، مع جورج بوش الأب، ومع مارغريت تاتشر، وهيلموت كول، وفرانسوا ميتران، علي السماح بجهود إعادة توحيد ألمانيا طالما يمتنع الغرب عن غزو منطقة النفوذ الروسي.
ومع ذلك، فقد فتحت اللعبة من جديد بمجرد خروج غورباتشوف من مسرح الأحداث. ثم جاء الرئيس بوريس يلستن، الذي عرف بإنقياده المفتوح وراء الولايات المتحدة. هذا أمر معروف.
لكن ما كان معروفا بدرجة أقل بكثير هو أن صندوق النقد الدولي قدم قرضا بقيمة 3.5 مليار دولار لدعم عملة الروبل. والملفت للنظر أن صندوق النقد الدولي حوّل هذا القرض إلى “بنك أوف أميركا” الذي تولي توزيع الأموال على حسابات روسية مختلفة.
والنتيجة هي أن شيئا من هذا القرض لم يصل على الإطلاق إلي خزانة البنك المركزي الروسي، وإنما ذهب إلى أيدي القلة القادرة علي شراء الشركات التابعة للدولة في روسيا. فلم ينبذ صندوق النقد الدولي بكلمة إحتجاج واحدة.
ثم جاء بوتين، الذي وضعه يلتسين في السلطة قبل مغادرته الحكم لمكافأته علي تستره على محسوبيته.
ومعه، واصل الغرب في إستراتيجيته لتطويق روسيا تدريجيا: فبعد يلتسين، دعم بوتين واشنطن في غزو أفغانستان الوشيك بطريقة ما كان من الممكن تصورها خلال الحرب الباردة.
ووافق بوتين على عبور الطائرات الحربية الأمريكية عبر الفضاء الجوي الروسي وعلي أن تستخدم الولايات المتحدة قواعد عسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة في آسيا الوسطى، بل وأمر جيشه بتبادل خبراته في أفغانستان.
ثم زار بوتين جورج بوش في مزرعته في تكساس في نوفمبر 2001، وسط ضجيج من التصريحات على غرار: “بوتين هو الزعيم الجديد الذي يعمل من أجل السلام العالمي… بالعمل عن كثب مع الولايات المتحدة”.
ولكن بعد أسابيع قليلة، أعلن بوش أن الولايات المتحدة ستنسحب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، بحيث تتكمن الإدارة الأمريكية من بناء نظام جديد في أوروبا الشرقية لحماية أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من إيران -وهي الخطوة التي كان ينظر إليها على أنها موجهة ضد روسيا في واقع الأمر.
أعقب هذا، بحلول عام 2002، دعوة بوش لسبع دول من الاتحاد السوفياتي المنقرض (بما فيها استونيا وليتوانيا ولاتفيا) للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (وهو ما فعلوه في 2004).
وفي عام 2003 جاء غزو العراق، دون موافقة الأمم المتحدة وعلى الرغم من اعتراضات فرنسا وألمانيا وروسيا. عندئذ، تحول بوتين إلى الناقد العلني لادعاء الولايات المتحدة بأنها تعمل لتعزز الديمقراطية وإعلاء القانون الدولي.
ثم في شهر نوفمبر من العام نفسه، أتت “الثورة الوردية” بميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الموالي للغرب، الى السلطة في جورجيا. وبعد مجرد أربعة أشهر، تحولت احتجاجات الشارع في أوكرانيا إلي “الثورة البرتقالية”، وأتت بدورها برئيس آخر موالي للغرب، فيكتور يوشينكو.
وفي عام 2006، طلب البيت الأبيض من روسيا السماح بهبوط طائرة بوش الرئاسية في موسكو للتزود بالوقود، لكنه أوضح في الوقت نفسه أن بوش لم يكن لديه وقتا لتحية بوتين.
ثم في عام 2008 جاء إعلان كوسوفو من جانب واحد عن استقلالها عن صربيا، بدعم من الولايات المتحدة، ورغم أنف روسيا.
ثم طلب بوش من حلف شمال الاطلسي منح العضوية لأوكرانيا وجورجيا، فيما يعتبر صفعة في وجه موسكو.
لذلك لم يكن من المستغرب أن يكون بوتين قد قرر التدخل عسكريا في عام 2008 في جورجيا بعد أن حاولت استعادة السيطرة على المنطقة الانفصالية الموالية لروسيا في أوسيتيا الجنوبية، جنبا إلى جنب مع منطقة أخرى منشقة، أبخازيا. وقد نذكر ر كيف وصفت وسائل الإعلام قرار بوتين بأنه إجراء غير معقول وغير مبرر
لماذا يعود العالم إلي الحرب الباردة؟ (1)/ روبرتو سافيو
روبرتو سافيو، مؤسس وكالة إنتر بريس سيرفس