بدأ العالم يستوعب التأثير الهائل للوباء العالمي كورونا فيروس كوفيد-19 ويدفع مختلف المؤسسات الاقتصادية والثقافية والسياسية وأساسا العسكرية–الاستخباراتية إلى تغيير طريقة اشتغالها ورؤيتها للعلاقات الدولية لأن العدو هذه المرة الفيروس، وهو عدو غير مرئي، يتحدى الجميع بدون استثناء.
ويفرض الوباء العالمي طريقة اشتغال جديدة، فقط خصصت الدول قرابة ستة آلاف مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيار، وهي خطة مارشال لم تشهدها البشرية من قبل. وهناك تغييرات مقبلة في طريقة اشتغال الدول والمؤسسات بعودة الفكر الوطني القومي والدولة الوطنية المراهنة على الاكتفاء الذاتي وعلى صلابة القطاع العام. وتحظى هذه المواضيع باهتمام الباحثين باستثناء الموضوع العسكري والاستخباراتي الغائب، علما أن الاستخبارات في بعض الدول ومنها الولايات المتحدة هي التي كانت سباقة الى دق ناقوس الخطر، بينما وجدت الدول في المؤسسات العسكرية الدعامة الرئيسية لمواجهة الوباء.
الجيوش استحضرت احتمال الوباء
وعمليا، تستحضر الاستخبارات والمؤسسات العسكرية التحديات الكبرى في رؤيتها للعالم، وهو ما يغيب عن السياسي والصحفي المنغمس في اليومي. وكان أحد مدراء الاستخبارات الفرنسية وهو آلان جوييه قد صرح منذ شهور في حوار هام للغاية مع برنامج “تينك فييو” الذي يبث فقط في الإنترنت بأن السياسي وخاصة الصحفي لا يمتلك رؤية ثاقبة للأحداث الدولية، فهو محدود الرؤية والاستشراف ورهين بأجندة وكالات الأنباء عكس الاستخبارات التي ترى العالم بشكل مختلف ومنها التكهن بتأثيرات أحداث لا تلمس في البدء. وعمليا قليلة هي وسائل الاعلام ذات الرؤية الاستشرافية للأحداث إذا جرى استثناء ذي إيكونوميست.
وعمليا، بينما كان موضوع كورونا فيروس غائبا عن الصحافة الدولية عندما ظهر خلال شهر نوفمبر الماضي، كانت الاستخبارات الأمريكية قد وضعت تقريرا على طاولة الرئيس دونالد ترامب تبلغه بخطورة الأمر. لكن الأخير، وكعادته في التعاطي مع تقارير الاستخبارات وخاصة بموضوع غريب مثل الوباء العالمي، تجاهل التقرير وفق ما نشرت قناة التلفزيون الأمريكية إي بي سي. وبدورها، أوردت الجريدة الرقمية بولتيكو الأمريكية الشهر الماضي بأن فريق رئاسة باراك أوباما أبلغ أعضاء فريق رئاسة ترامب بخطورة اندلاع وباء في العالم، ولم يأخذوا الأمر بجدية.
في الوقت ذاته، كانت استخبارات دول كبرى غربية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأخرى مثل روسيا تراقب عن كثب تطور كورونا فيروس منذ ظهور المؤشرات الأولى خلال نوفمبر وبداية ديسمبر الماضيين. وإذا كانت الحكومات قد تجاهلت التحذيرات بسبب اعتقادها حدوث وباء عالمي ينتمي إلى أفلام هوليوود، في المقابل تأخذه المؤسسات العسكرية على محمل الجد. فهذه المؤسسات تعتقد في الحروب البيولوجية، وهي قد تكون حروبا متعمدة من خلال قيام دولة بزرع فيروس في أراضي دولة أخرى، أو فيروس قادم من الطبيعة. وسواء كان مصنعا ا أو طبيعيا فهو يشن حربا بيولوجية ضد الدول بل والبشرية جمعاء مثل الوباء العالمي كوفيد-19. ويقول الجنرال فيرنانديس ديل بوزو لجريدة الباييس يوم 22 مارس الماضي، وهو المسؤول عن الوحدات العسكرية لمواجهة كوفيد-19 “مخطط الدفاع الذي وضعناه سنة 2017 يتضمن مواجهة حرب بيولوجية طبيعية ولكننا كنا نفكر في فيروس مثل إيبولا وليس كوفيد-19 ولم نتخيل الانعكاسات التي حملها على العالم“. ويبرز “إيبولا فيروس مازال في الكونغو ، وبين الفينة والأخرى قد ينتقل الى العالم، ولهذا وضعنا خططا طبية والإجلاء لمواجهته“.
وتخاف المؤسسات العسكرية من حرب بيولوجية أو جرثومية أو ميكروبية، وهي الأسماء المعروفة بها، وخاصة إذا كانت تنتقل عبر الوباء بسبب خطورتها التي تتجاوز الحرب الكيماوية بل حتى النووية في حالة انفلات الفيروس من السيطرة. ومن ضمن الأمثلة. خلف فيروس الأنفلونزا الإسبانية ما بين سنتي 1918-1920، قرابة مائة مليون ضحية وفق الدراسات الأخيرة، ربما أكثر من جميع الحروب التي خاضتها الإنسانية جمعاء خلال القرون الأخيرة. ولهذا، يعتقد الفريق الرافض لأطروحة المؤامرة بشأن مسؤولية دولة أو جماعة وراء هذا الفيروس بأنه لم يسبق توظيف أي فيروس في حرب بمفهوم الحرب البيولوجية لأن لا أحد سينجو من تبعاتها.
الصين تعاملت مع الفيروس وحرب بيولوجية
لقد كانت الصين هي الدولة السباقة إلى التعامل مع كوفيد 19 وكأنه حرب بيولوجية تعرضت لها البلاد. وانطلقت من قاعدتين، الأولى لا تستبعد تعرض البلاد الى عمل تخريبي من خلال زرع الولايات الفيروس. وفي هذا الصدد، يمكن استحضار تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان في تغريدة له في تويتر يوم 12 مارس الماضي بالتشكيك في البنتاغون (انظر القدس العربي 4 مارس، كيف تحاول الصين بهدوء بناء رواية رواية اتهام واشنطن بمؤامرة الوقوف وراء كورونا فيروس) ويؤكد تشونغ نان شان الرئيس السابق للهيئة الطبية في الصين والعالم الذي كان وراء اكتشاف فيروس سارس سنة 2003 الشبيه بكورونا فيروس قال منذ أيام “كورونا فيروس جرى رصده في الصين بالفعل ولكن لا توجد أدلة على أنه صيني المصدر”. والقاعدة الثانية هي أن الفيروس مصدره الطبيعة، وهو المتعارف عليه عبر مختلف الأزمنة، حيث كانت الصين مصدرا للكثير من الفيروسات.
ويقول العلماء “الفيروس سواء كان مصطنعا أو طبيعيا يبقى في آخر المطاف حربا بيولوجية تهدد الإنسانية“. ووعيا منها بخطورة هذا الفيروس، وظفت الصين عدد من وحداتها العسكرية الخاصة بالحروب البيولوجية في مواجهة هذا الفيروس. فقد تولى أطباء عسكريون الإشراف التام على محاربة كوفيد-19، سواء من حيث فصل المصابين عن باقي الساكنة والمرضى بأمراض مختلف من خلال مستشفيات ميدانية، أو الحجر الصحي الذي كان الأول من نوعه خلال المائة سنة الأخيرة، وتوظيف كل الإمكانيات العسكرية ومنها مختبرات في عين المكان تحلل نوعية الفيروس وتتخذ القرارات العملية لاحتواءه. ورغم أن الفيروس ظهر في أراضيها فقط نجحت في حماية الشعب البالغ مليار و300 مليون. وعمدت معظم الدول الى توظيف الجيوش والطب العسكري لمواجهة الفيروس. في الوقت ذاته، أرسلت روسيا الى إيطاليا وحدات وخبراء عسكريين وليس مدنيين للمساعدة في احتواء الفيروس الذي جعل من هذا البلد يسجل أعلى نسبة من الوفيات في العالم حتى منتصف أبريل الجاري.
الفيروس يفرض أجندة عسكرية واستخباراتية
في أعقاب الواقع الجديد الذي يفرضه كوفيد-19 على العالم، بدأت المؤسسات العسكرية والاستخباراتية تغير من أولوياتها. وعليه، فقد أصبحت مواجهة الفيروسات هي النقطة الرئيسية في أجندتها. فقد ترسخ وعي جديد باحتمال عودة موجة ثانية من هذا الفيروس وقد يكون قاتلا إذا ما طرأ تغيير على تركيبته الجينية. وهكذا، فهي تعمل على ما يلي:
في المقام الأول، في الوقت الراهن، تتولى الاستخبارات في عدد من الدول في الحصول على المعدات الطبية سواء من خلال القرصنة الذكية أو من خلال دفع عمولات ورشاوي لتغيير وجهة صفقات من دول الى أخرى، وهو ما أقدمت عليه الولايات المتحدة مثلا. ويقوم الجيش بالمساهمة في التصنيع الطبي بمساعدة الشركات.
في المقام الثاني، كانت الصناعة الطبية دائما عرضة للتجسس، لكن بعد كوفيد-19، أصبحت الدول تحمي علمائها كثروة وطنية وقومية على شاكلة ما تعاملت به مع علماء الذرة والنووي. وذلك بسبب قيام بعض الدول ومنها الصين والولايات المتحدة بالتجسس العلمي الطبي على المختبرات من جهة، وبمحاولة استقطاب العلماء والباحثين من جهة أخرى. وسيكون العميل المقبل في الواقع وفي الأفلام ليس هو جيمس بوند الكلاسيكي بل جيمس بوند قادم من مختبرات البحث العلمي ليتجسس على نظرائه في مختبرات دول أخرى بحكم قدرته العلمية على التعاطي مع الفيروسات والبكتريات.
في المقام الثالث، قوة هذا الفيروس وسرعة انتشاره في العالم والتسبب في إغلاق الحدود بين الدول والتسبب في وفيات سريعة، يدفع المؤسسات العسكرية في الدول الكبرى الى الرهان على تقوية وحداتها الخاصة بالحرب البيولوجية وقيام الصغرى بإنشاء وحدات في هذا الشأن بل وخوض مناورات. ومن ضمن الأمثلة، ما نشرته سبوتنيك الروسية بقيام وحدات الحرب البيولوجية والكيماوية التابعة للجيش الروسي في عز أزمة كوفيد-19 بمناورات عسكرية جنوب البلاد في منطقة فولفغراد بتنسيق مع وزارة الداخلية ووزارة الطوارئ. وتتلخص المناورات في قيام وحدات خاصة بمواجهة وضع ناتج عن انتشار فيروس وكأن الأمر يتعلق بحرب بيولوجية في فولفغراد، حيث يتم الحجر الصحي على السكان وتنظيف المنطقة والقضاء على مصدر الفيروس. وجرى تحريك مئات المعدات الطبية–العسكرية من سيارات خاصة ومختبرات ووحدات عسكرية مختصة.
قد كانت الاستخبارات العسكرية سباقة الى رصد خطورة الفيروس، وتحملت المؤسسة العسكرية المسؤولية الكبرى، فهي ستكون من الفاعلين في رسم صورة العالم ما بعد كوفيد-19.