تعتبر العلاقات المغربية-الفرنسية نموذجية في التعاون بين ضفتي المتوسط. ولم تتعرض لهزات منذ بداية التسعينات عندما تأثرت وقتها بصدور كتاب المثير للجدل “صديقنا الملك” حول الحسن الثاني. ولكن هذا التناغم الدبلوماسي تكسر خلال الأيام الأخيرة وحلت أزمة باردة على خلفية محاولة استنطاق مدير المخابرات المدنية عبد اللطيف الحموشي وتصريحات سفير باريس فرانسوا ديلاتر في واشنطن الذي وصف المغرب بالعشيقة. وإذا كان الملف الثاني قابل للتجاوز من خلال اعتذاري حقيقي، فالأول يحمل معه امتدادا مستقبلا سيشكل تحديا حقيقيا للمغرب.
وقدمت فرنسا نسبيا الحل للمشكل الثانية، تصريحات السفير، بنفيها أن يكون هذا السفير قد اجتمع بالممثل الإسباني خافيير بارديم لمعالجة ملف الصحراء وإن كان الأمر يتطلب بيانا من السفير. وكان بارديم هو الذي كشف الخميس الماضي في باريس خلال نشاط داعم للبوليساريو عن هذه التصريحات المهينة جدا في حق المغاربة. وكل رد فعل قوي للمغرب في هذه النقطة يجب دعمه وتأييده لأن الأمر يتعلق بإهانة وطن وشعب.
ولكن، يبقى الإشكال الحقيقي هو ملاحقة مدير المخابرات الحموشي أمام القضاء الفرنسي بتهمة التعذيب، حيث اتهمه ثلاثة مغاربة في ثلاث دعاوي وهم عادل المطالسي وزكريا المومني ونعمة الأسفاري بالتعرض للتعذيب في مركز تمارة وإذا كانت دعوى الأسفاري يجب النظر إليها انطلاقا من زاوية سياسية أكثر من حقوقية بسبب انتماءه الى البوليساريو، فملف المطالسي ومومني تبقى قضايا حقوقية محضة . وحاول القضاء الفرنسي إحضار الحموشي بالقوة يوم الخميس الماضي خلال تواجده في باريس للمشاركة في قمة أمنية، وهو ما يفسر رد فعل المغرب. والاستعانة بسبعة من أفراد الشرطة لم يكن الهدف منهم إبلاغ الحموشي بالدعوى بل إحضاره بالقوة، وهو ما يفسر رد فعل المغرب.
وعليه، كيف يجب التعامل مع هذا المستجد، هل يتعلق الأمر بمؤامرة للجزائر والبوليساريو للتشويس على العلاقات المغربية-الفرنسية؟ هل يتعلق الأمر بالتشويس على زيارة الملك محمد السادس الى دول إفريقية؟ أم يتعلق الأمر بلجوء بعض المغاربة الى ما يسمى العدالة الكونية بعدما عجز القضاء المغربي على فتح ملفات التعذيب في المغرب؟
علاقة بالتساؤل الأول، منذ مدة والبوليساريو يعمل على محاولة التأثير في الساحة السياسية الفرنسية لتقليل دعم باريس للمغرب في ملف الصحراء. وقد بدأ ينجح في التسرب الى فرنسا، وعنوان هذا النجاح الأيام التضامنية خلال الأسبوع الماضي، ثم كيف تسبب الممثل بارديم في أزمة بين المغرب وفرنسا من خلال تصريحاته المذكورة. وبدل البكاء والقول بالمؤامرات، ماذا أعدت المخابرات والدبلوماسية المغربية لوقف تأثير البوليساريو والجزائر في فرنسا، المدافع الأول عن مغربية الصحراء دوليا؟ هذا هو جوهر الأشياء، لأن الأشخاص يمرون والأوطان تبقى.
علاقة بالتساؤل الثاني، لا أعتقد في رواية التشويس الفرنسي على زيارة الملك الى دول إفريقيا لسببين، الأول وهو أن المغرب لا يمكنه نهائيا منافسة فرنسا في إفريقيا، فباريس تخصص سبعة ملايير يورو سنويا من المساعدات للقارة السمراء، بل يوجد تنسيق بين البلدين. والسبب الثاني هو استقلالية القضاء الفرنسي الذي لا يمكن أن يؤثر فيه حتى رئيس الدولة الفرنسية، وبالأحرى أطراف خارجية. ولم يتجرأ اي مسؤول فرنسي على التدخل في شؤون القضاء خلال التفسيرات التي تقدمها باريس الى الرباط حول ملف الحموشي.
وهذا القضاء يحاكم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، كما حاكم سلفه جاك شيراك، ويحقق الآن مع مدير المخابرات الفرنسية السابق بيرنارد سكاسيني، كما يحقق مع مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد. ورغم هذه المحاكمات، لم يجرأ أحد بالحديث عن المؤامرات لضرب صورة فرنسا والشويش عليها دوليا. واعتمد هذا القضاء قبل توجيه التهم الى الحموشي على التقارير الدولية والأمم المتحدة، إذ عالجت هذه التقارير حالة المطالسي وزكريا مومني.
وفق تصورنا، الإشكال الحقيقي كامن في القضاء المغربي وفي المخابرات المغربية أساسا. وبعيدا عن الاتهام أو الإشادة بالمخابرات كما ذهبت الى ذلك بعض الكتابات. يجب الاعتراف بأن صورة المغرب أمنيا وقضائيا سلبية للغاية أمام الرأي العام الدولي بسبب فساد القضاء وبسبب خروقات حقوق الإنسان وعنوانها معتقل تمارة الذي تحول الى “تازمامارت مدني”.
في هذا الصدد، كل تقارير المنظمات الدولية مثل أمنستي أنتشرنال وهيومن رايت واتش والوطنية ذات المصداقية مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وحتى منظمة الأمم المتحدة أكدت ونددت بوقوع التعذيب في مركز المخابرات في تمارة. مخابرات غربية مثل الأمريكية والبريطانية اعترفت بنقل متهمين بالإرهاب للخضوع للإستنطاق المغرب. ونتساءل، هل كل هذه الأطراف معادية للمغرب بما فيها الأمم المتحدة حتى تشير الى مركز تمارة؟ الاعتقاد في هذا سيكون غباء ليس بعده غباء.
في الوقت ذاته، جزء وليس الكل، من تاريخ المخابرات المغربية غير مشرف، فقد تورطت في اختطافات واغتيالات وعمليات تلفيق تهم دنيئة كل الدناءة للغاية ضد سياسيين وصحفيين بل وأعضاء من العائلة الملكية وتورطت في حملات إعلامية لتشويه مناضلين وصحفيين وكأن مقالات في منابر ستردع هؤلاء.
وقد لجأ عدد من المتضررين الى القضاء المغربي لإنصافهم اعتقادا بدولة الحق والقانون، لكن القضاء، وهو قضاء يصنف بالفاسد بامتياز، وفق تقارير وطنية ودولية آخرها تقرير أوروبي، يلتزم الصمت ويحيل على الحفظ كل دعوى ضد الدولة المغربية وأساسا المخابرات، وهذا هو المشكل الحقيقي.
وأمام موقف الجبن للقضاء المغربي، لجأ بعض المتضررين الى القضاء الدولي ضمن ظاهرة ما يعرف بالقضاء الكوني أي متابعة شخصيات مسؤولة سياسية وأمنية أمام قضاء دولة أخرى خاصة إذا كان متجنسا بجنسيتها سعيا وراء الانصاف الذي لم يجده في وطنه الأم.
وهذه ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها تقديم دعوى الى القضاء الدولي ضد مسؤولين مغاربة. فقد أقدم نشطاء صحراويون على رفع دعاوي ضد مسؤولين أمنيين، وأقدم مغاربة على تقديم دعاوي ضد بعض المسؤولين البارزين ومنهم إدريس البصري في بروكسيل سنة 2000. وتعتبر الدعوى ضد الحموشي حلقة من حلقات لجوء المغاربة الى القضاء الدولي، وليست بالضرورة هي الأخيرة.
ولا يقتصر الأمر فقط على مسؤولين مغاربة، فإسرائيل بنفوذها العالمي لم تستطع وقف المحاكمات الدولية ضد مسؤوليها. وتقدم مغربيان بدعوى أمام القضاء الإسباني ضد الرئيس الأمريكي جورج بوش، ويجري التحقيق فيها، فهل هذا يعني أن المغربيين يهدفان الى التشويش على العلاقات بين مدريد وواشنطن!
يوجد إرث أسود في المغرب اسمه مركز التعذيب والاعتقال غير الرسمي “تمارة”، وتوجد في المغرب مخابرات لا تخضع لسلطة قضائية وبرلمانية وفي وقت من الأوقات تحول مركزها، وفق التقارير الدولية وشهادات مغاربة، الى سجن كبير لاستقبال مغاربة وأجانب للتعذيب . كل هذا أصبح مصدر مشاكل للمغرب قضائيا على المستوى الدولي. وهناك مشكل وجود قضاء جبان لا يستطيع التحقيق في أي ملف ضد الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وبهذا يفتح الباب أمام اللجوء الى القضاء الأجنبي.
نعم، قد تكون هناك مؤامرات، ولكن هناك إرث أسود يتطلب الشجاعة السياسية والقضائية في معالجته، لو وجد المتضررون الإنصاف في المغرب من خلال فتح تحقيق لما لجأوا الى المغرب. لم نجد اي فرنسي لجأ الى القضاء الدولي ضد بلاده، لأنه يدرك أن قضاء بلاده سينصفه.
والحل ليس بالعسير والصعب لتفادي مثل هذه الأزمات مستقبلا، يبدأ بإخضاع المخابرات للمراقبة القضائية والبرلمانية مثل الدول المتقدمة، وعدم التردد في فتح التحقيق في كل تعذيب مفترض.