يشكل فوز حزب سيريزا اليساري الراديكالي في الانتخابات التشريعية في اليونان الحدث الدولي الذي يتخذ نسبيا صبغة المنعطف التاريخي بسبب الدلالات السياسية والاجتماعية التي يحملها للمشهد السياسي في الاتحاد الأوروبي. وهذا المنعطف لا يمكن فصله عن حدثين هامين، مفهوم اليسار في أمريكا اللاتينية خلال العقدين الأخيرين وتأثيرات الربيع العربي، ومن جانب آخر، تأثير أدوات التواصل التي تتيحها شبكة الإنترنت في التواصل السياسي.
وفاز حزب سيريزا في انتخابات الأحد 25 يناير 2014 ب 149 مقعدا على بعد مقعدين من الأغلبية المطلقة. والانتصار يعتبر دالا للغاية نظرا لمسيرة الحزب القصيرة التي تعود الى سنوات فقط، واستطاع التفوق على أحزاب شكلت العمود الفقري للبلاد منذ الانتقال الديمقراطي في السبعينات ونهاية حكم العسكر. ولم يتجاوز الحزب الاشتراكي التاريخي 13 مقعدا وتراجع الحزب الشيوعي، وتفتت اليمين المحافظ الكلاسيكي الى تيارات جعلته لا يتجاوز سقف 80 مقعدا.
والوصفة السياسية التي قدمها حزب سيريزا بزعامة ألكسيس تسيبراس الذي اصبح رئيس حكومة ابتداء من الاثنين 26 يناير هي “إعادة الكرامة لليونانيين” جراء سياسة التقشف التي فرضتها الترويكا” البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية على بلد ارتفعت ديونه العمومية الى 176% من الناتج القومي للبلاد، مما يجعل اليونان رهينة ولعقود من الزمن مستقبلا لشروط المؤسسات المالية الدولية.
وكانت أولى كلمات تسيبراس ليلة إعلان النتائج “لقد انتهت سياسة التقشف المفروضة علينا من الخارج”. فقد كان اليونانيون يشعرون باستعمار المؤسسات المالية لبلدهم منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية سنة 2007، حيث ترتب عن التقشف ارتفاع الفقر وتراجع الخدمات الاجتماعية بشكل مهول.
ويتجلى الزلزال السياسي الناتج عن فوز سيريزا في مسارعة القوى السياسية الكلاسيكية والمؤسسات المالية الدولية الى توجيه خطابات الإنذار والتحذير لليونان، ثم القلق الذي ساد الأسواق المالية الدولية وعلى رأسها الأوروبية في اليوم الموالي للانتخابات مثل تراجع البورصات. ولم يتردد رئيس حكومة بريطانيا دفيد كاميرون بالقول “نجاح سيريزا يزيد مستقبل أوروبا الاقتصادي غموضا”. لكن، منح اليونانيين الفوز لحزب “سيريزا” وهو منح الشرعية الشعبية والسيادية لمواجهة شروط الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
وفوز سيريزا يعتبر حلقة ضمن منعطف هام تعيشه أوروبا، وهي القارة المتعودة على تغييرات جذرية كل ثلاثة عقود أو أربعة. وعمليا، يمكن اعتبار ما سيترتب عن فوز سيريزا بمثابة الحدث الذي يمكن مقارنته مع الوحدة الألمانية بعد سقوط سور برلين. ويضع سيريزا الاتحاد الأوروبي أمام تحديين أحلاهما مر، كما يقول المثل العربي وهي: أولا، اتفاقية مالية جديدة تنهي التقشف وتخفف ثقل الديون على اليونان، أو أزمة عميقة ستضرب أسس الاتحاد الأوروبي في حال انسحاب اليونان من العملة الموحدة اليورو.
وفي الوقت ذاته، يبلور سيريزا وجمعيات أخرى خطابا سياسيا مقلقا لألمانيا وهو “يجب على المانيا تشطيب الديون كتعويض عن فترة الاحتلال النازي”. وهذه الصيغة نادى بها حتى زعيم اليسار الراديكالي في فرنسا جان ميلنشان يومه الاثنين 26 يناير. فقد لعبت المانيا دور دركي البورصة أكثر منها دولة تساهم في إنقاد اليونان واسبانيا خلال الأزمة. وأثار سيبراس قلق الألمان، فأول ما فعله بعدما اصبح رئيسا للحكومة هو زيارة منطقة في ضواحي أثينا حيث كان النازيون قد أعدموا 200 من الحزب الشيوعي.
ونجاح سيريزا في الانتخابات هو مقدمة لتغيير قد يكون جذريا في المشهد السياسي الأوروبي، فهو يهيئ لفوز تشكيلات سياسية أخرى وخاصة في دول جنوب أوروبا مثل اسبانيا وإيطاليا. وتعيش اسبانيا سيناريو شبيها ياليونان، فالحزب الذي يتزعم استطلاعات الرأي هو “بوديموس” الحديث النشأة ويتبنى خطابا شبيها بسيريزا. وقد يتطور حزب “خمسة نجوم” في إيطاليا الى وضع مشابه، وتعمل قوى اليسار الراديكالي في البرتغال على تشكيل ائتلاف قوي، وتدرس جبهة اليسار في فرنسا بزعامة ميلونشان صيغ لتحقيق قفزة نوعية على شاكلة سيريزا وبوديموس.
وتستفيد القوى اليسارية الجديدة من الانهيار والعياء الذي يصيب الأحزاب السياسية الكلاسيكية سواء من اليمين المعتدل المحافظ أو من العائلة الاشتراكية، وهي أحزاب توالت عل الحكم طيلة الستة عقود الأخيرة في مختلف دول الاتحاد الأوروبي وخاصة الكبرى منها ولم تعد قادرة على تقديم أجوبة لتطلعات الشعوب الأوروبية.
ونظرا للعلاقات الدولية المعقدة والتأثير الحاصل في كل الاتجاهات، لا يمكن فصل ما يجري في اليونان كمقدمة لما قد تسجله أوروبا عن ثلاثة أحداث طبعت العالم منذ سنة 2000 وهي:
أولا، المفهوم الجديد لليسار الذي أتت به أحزاب يسارية جديدة في أمريكا اللاتينية وصلت الى السلطة في دول مثل فنزويلا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور، وتتجلى في التقليل من البرامج الإديولوجية التي تتجاوز المواطن العادي في الكثير من الأحيان الى مقترحات عملية وملموسة وبرغماتية تمس حياته المعيشية مباشرة. وكذلك الحد من تدخل المؤسسات الدولية في اقتصاد الدول. فقد لبس اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية ثوبا اجتماعيا، واقترب من هموم الناس، وجعل من خطاباته مستويات، الأول لعامة الناس وهو التركيز على المعيشي، والثاني خاص بالمثقفين ويركز على حلم ثورة هادئة لتغيير أسس اللعبة الوطنية والدولية انطلاقا من صناديق الاقتراع. ووصل مفهوم اليسار لأمريكا اللاتينية هذا الى دول الاتحاد الأوروبي بعدما كان يعتبر شعبويا. واليسار الجديد في أمريكا اللاتينية وأروبا هو مختلف عن الاشتراكيين وكذلك عن الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية.
ثانيا: التأثير المباشر لاندلاع الربيع العربي على الحركات الاحتجاجية في دول الاتحاد الأوروبي. وكان رئيس الحكومة الإسباني الأسبق، فيلبي غونثالث قد اعترف بالتأثيرات المقبلة للربيع العربي على الحركات الاحتجاجية في أوروبا بعدما ظهرت حركة 15 مايو في اسبانيا. وعمليا، انتعشت وحققت قفزة نوعية الحركات الاحتجاجية والتي هي يسارية ولكن يغلب عليها الخطاب الاجتماعي المرتبط بمشاكل وهموم الناس مباشرة بعد الربيع العربي. وكان زعيم سيريزا معجبا بالربيع العربي، وأدلى بتصريحات مشيدة بهذا الربيع قبل أن يواجه تحديات في ردة ديمقراطية بدأت من مصر.
ثالثا: ظهور إعلام جديد في العالم وفي أوروبا أساسا يتجاوز الاعلام الكلاسيكي من صحف وقنوات تلفزيونية. ويقوم هذا الاعلام على الصحافة الرقمية، حيث ظهرت منابر إعلامية أوروبية جديدة تحمل وتدافع عن خطابات هذه الحركات الاجتماعية التي لا تجد فضاء في منابر كلاسيكية مثل لوموند والباييس ودي شبيغل وقنوات مثل التلفزيونات الرسمية. في الوقت ذاته، تستغل هذه الحركات شبكات التواصل الاجتماعي يوتوب وتويتر والفايسبوك وما يعرف بصحافة المواطنة بشكل ذكي في التواصل مع المواطنين للتعريف ببرنامجها وتقديم رؤى ومقترحات حلول جديدة.
وبهذا، فاليونان الدولة التي عانت من التهميش رغم أنها معهد الحضارة الغربية تعود الى الواجهة لتحدث زلزالا سياسيا، وتصبح بمثابة تونس، التي كانت غائبة في خريطة العالم اعربي، ولكنها حملت مفاجأة شرارة الربيع العربي. وهذه التطورات تقود الى “اليونان تونس الربيع الأوروبي”.