عندما نفّذ الحلف الأطلسي عمليات إرهابية دامية ونسبها لليسار!/د. حسين مجدوبي

صورة لاعتداء بولونيا الذي خلف مقتل 85 شخصا في إيطاليا

أحيانا يعتقد الصحافي، بل الأدهى والأسوأ، المؤرخ نفسه بإلمامه بالحقائق الكاملة لحدث ما، قد يكون محدود التأثير أو قد يكون تأثيره ممتدا إلى عقود. وأحيانا يكون الأمر مختلفا، وبالعودة الى الأرشيف، ولاسيما عندما ترفع بعض الدول السرية عن ملفات ووثائق مهمة، تظهر حقائق تجعل المعادلة تنقلب. ومن هذه القضايا التفجيرات الإرهابية التي تعصف بالعالم، وعلى رأسها تلك التي زرعت الرعب في أوروبا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وكانت راءها، الديمقراطيات الغربية.. نعم الديمقراطيات الغربية المنتخبة.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، توجست الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة من خطر زحف شيوعي، بتنسيق مع الأحزاب الشيوعية الأوروبية لاحتلال أوروبا. واهتدت الاستخبارات ومنها الأمريكية إلى إنشاء ميليشيات سرية ستتولى المقاومة في حالة الغزو السوفييتي. وفي تطور خطير، مارست هذه الميليشيات لاحقا حرب بروباغندا دامية ضد الشيوعيين الأوروبيين، بتنفيذ عمليات إرهابية ضد مدنيين وتوجيه التهمة إلى ناشطين شيوعيين لزرع الرعب. وتسمى العملية برمتها «كلاديو» Gladio أو ستاي بيهاند Stay-behind. وهذه حقائق غير مقتبسة من  كتب تؤمن بالمؤامرة أو روايات الخيال، بل من تقارير الشرطة وتحقيقات القضاء والبرلمان الأوروبي حول ممارسات هذه الميليشيات في عدد من الدول الأوروبية، وخصوصا في إيطاليا وبلجيكا.

وشن الإرهاب المنظم من طرف الاستخبارات العسكرية الغربية، وبتنسيق مع الحلف الأطلسي حربا حقيقية ضد الشعب الإيطالي، بهدف التقليل من قوة وقيمة الحزب الشيوعي، حتى لا يصل إلى الحكم، بعدما كان يتمتع بشعبية كبيرة. وكان الاعتقاد السائد هو وقوف «الألوية الحمراء» وراء العمليات الإرهابية، وإذا بالتحقيق يؤكد تورط خلايا مسلحة تابعة للحلف الأطلسي. وبدأت سلسلة الاعتداءات بعملية «بيازا فونتانا» سنة 1969 ثم «بيتيانو» سنة 1972 ثم انفجار قنبلة في بريسيا التي خلفت مقتل 12 شخصا، وجرح أكثر من مئة، ثم عملية إرهابية يوم 4 أغسطس 1974 ضد قطار روما- ميونيخ خلّف مقتل 12 شخصا. وكانت أخطر عملية إرهابية هي تلك التي استهدفت محطة قطار بولونيا يوم 2 أغسطس 1980 وخلفت مقتل 85 شخصا. ويوم 8 نوفمبر 1990 اعترف رئيس الحكومة جوليو أندريوتي، بوقوف تنظيمات مرتبطة بالحلف الأطلسي وراء العمليات الإرهابية.

 

كما شهدت بلجيكا عمليات إرهابية مرعبة بين سنتي 1982-1985 خلفت مقتل 28 شخصا، وتعرف بجرائم برابانت، وكانت أخطرها تلك التي استهدفت متجرا في ألوست يوم 9 نوفمبر 1985 عندما فتح مجهولون النار وقتلوا ثمانية أشخاص سنة 1985، واعترف رئيس حكومة بلجيكا ويلفريد مارتنس، خلال نوفمبر 1990 بوجود ميليشيات «كلاديو» وما نفذته من إرهاب. ومازال القضاء يحقق في هذه الجرائم، واستدعى الشهر الماضي عددا من المشتبه فيهم لأخد عينات من الحمض النووي، حيث يرغب في كشف الحقيقة قبل تقادم الجرائم سنة 2025.

وتوجد أشرطة وثائقية وكتب ومقالات كثيرة حول هذه العمليات الإرهابية، ويبقى أبلغها ما نشرته أسبوعية «نوفيل أوبسرفاتور» يوم 15 نوفمبر 2016 بعنوان «عندما كان الحلف الأطلسي يقتل المدنيين في أوروبا لمواجهة الاتحاد السوفييتي». ورغم أن شبكة «كلاديو» أو «ستاي بهاند» نفذت عمليات إرهابية في مختلف الدول الأوروبية، ثلاثة منها هي التي فتحت تحقيقا رسميا، في سويسرا وبلجيكا وإيطاليا، والتزمت الدول الأخرى مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا والنمسا الصمت. وقد ساهمت حرب الخليج الأولى ضد العراق في عدم اهتمام العالم بهذا الملف، عندما انفجر وقتها. إن عمليات «كلاديو» تدعو الى التساؤل العميق بشأن ما يلي:
*لماذا حالت الدولة العميقة في الغرب دون السير العادي للتحقيق القضائي في هذه الجرائم الإرهابية ذات الأهداف السياسية المحضة؟ لقد اعتاد الغرب ملاحقة ملفات كثيرة، ولكن لماذا بالضبط يجري التماطل في الكثير من الملفات ومنها «كلاديو» حتى يطالها النسيان؟
*وهناك تساؤل آخر: لماذا لا  تعيد الصحافة هذه الملفات إلى الواجهة؟  سيؤدي ذلك الى معرفة حقيقة العديد من القضايا الشائكة في الماضي. وبدون شك، سيساعد هذا في معرفة الكثير من القضايا التي وقعت خلال السنوات الأخيرة، خاصة الاعتداءات الإرهابية التي يشوبها الغموض، والكثير من التساؤلات بدل الاكتفاء بالروايات الرسمية.

في نقاش مع زميل إسباني عمل صحافيا في السبعينيات والثمانينيات قبل تقاعده منذ سنوات وتفرغه للكتابة الروائية والسياسية، عاش في إيطاليا وغطى تلك الاعتداءات، وساورته مثل الكثير من الصحافيين الشكوك، لكن وسائل الإعلام كانت تمنع نشر أي رواية مخالفة للرسمية، خوفا من التعرض للانتقام أو الاتهام بالمؤامرة. يمكن نشر مئات وثائق وملفات الاستخبارات، التي رفعت عنها السرية لتقديم روايات أقرب الى الواقع، من الروايات التي نعتقد في صحتها، أو اعتقدنا في صحتها سنوات طويلة، بشأن أحداث وطنية ودولية، ويمكن حاليا التشكيك في الكثير من الملفات التي تدعو للريبة، لكن سيف دومقليس هو: اتهام من يحاول القيام بهذا بأنه من أنصار المؤامرة.

الاتهام بالإيمان بفكر المؤامرة، الذي يوجه إلى كل من يشكك في الروايات الرسمية، يعيق صحافة التحقيق كما يعيق كتابة التاريخ، ويحد من حرية التعبير، بل أحيانا يهدد بالسجن كل من يحاول تقديم رواية مختلفة لبعض القضايا مثل الإٍرهاب. والأكيد، هو أن وثائق ستظهر مستقبلا ستفند الكثير من الروايات الحالية حول بعض العمليات الإرهابية، وحول تحالفات وحول اغتيالات وحروب. ومن لم يصدق فليشاهد في يوتيوب الأفلام الوثائقية حول الجيش السري للحلف الأطلسي، أو عملية «كلاديو» أو ميليشيات ستاي بهاند وكيف قتل الحلف الأطلسي مدنيين لمواجهة الاتحاد السوفييتي وجرى إلصاق التهم باليسار. إعادة تركيب صورة أحداث الماضي ستجعل الصحافيين والمؤرخين يفهمون كيف يتم أحيانا التخطيط للحاضر، لكن الصحافة فقدت قدرة التشكيك والنقد.

Sign In

Reset Your Password