اعترف الملك محمد السادس في خطابه الافتتاحي للبرلمان المغربي في دورته التشريعية الجديدة مساء الجمعة 11 أكتوبر 2013 بالوضع الصعب الذي يجتازه ملف الصحراء المغربية، وطالب نواب البرلمان وفاعلين آخرين مثل الاعلام والأحزاب والمجالس المنتخبة بالتحرك وعدم انتظار فقط المبادرات الملكية. وقال لأول مرة “الوضع صعب، والأمور لم تحسم، ومناورات خصوم وحدتنا الترابية لن تتوقف”. وعلى ضوء الخطاب الملكي يمكن طرح السؤال بصيغة، ليست استفزازية، ولكن على شاكلة استحضار “أسوأ السيناريوهات” كما تفعل مراكز الدراسات الاستراتيجية، هل اقتربنا من خسارة الصحراء؟
وتحلي الملك بهذه الواقعية لأول مرة في حديثه عن ملف الصحراء هو دق لناقوس الخطر على شاكلة ما فعله أبوه الملك الحسن الثاني عندما طالب الأحزاب السياسية قبل وفاته بسنتين العمل بدل ترديد مقولة “الاستفتاء التأكيدي”.
وأبرز العناصر التحذيرية الواردة في الخطاب الملكي يمكن تلخيصها في تحديات صعبة للغاية يواجهها ملف الصحراء المغربية دوليا، استطاع المغرب تجاوز بعضها بينما البعض الآخر يستمر قائما، وذلك في إشارة منه الى محاولة واشنطن تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء واحتمال تكرار المحاولة بشكل أقوى في ظل التقارير التي تندد بخروقات تورطت فيها الأحهزة الأمنية المغربية في الصحراء.
وأشار الى ما وصفه ب”الاختلالات في التعامل مع قضيتنا المصيرية الأولى، رغم التحركات الجادة التي يقوم بها بعض البرلمانيين. إلا أنها تظل غير كافية”. ويبقى جوهر الخطاب بشأن مستقبل الصحراء قوله “إن الوضع صعب، والأمور لم تحسم بعد، ومناورات خصوم وحدتنا الترابية لن تتوقف، مما قد يضع قضيتنا أمام تطورات حاسمة”. وتماشيا مع تصور مضامين الخطب الملكية، فلهجة التحذير كالواردة في الخطاب الأخير، تأتي بعد استفحال الوضع.
وعمليا، شهد ملف الصحراء المغربية تطورات متسارعة على المستوى الدولي لا تصب في مصلحة المغرب وتأخذ أهميتها في ظل المواقف التي يمكن وصفها “بغير الودية” التي تبنتها دول غربية يفترض أنها حليفة للمغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا. وهذه التطورات مرتبطة بأطروحة بدأت تسود في الأوساط الدولية تنادي بضرورة إيجاد حل نهائي لنزاع الصحراء، وذلك بالرهان على حل سياسي يستجيب لطلبات المغرب وجبهة البوليساريو وقد قد يكون نظاما فيدراليا أو كونفدراليا دون استبعاد حدوث انفصال أي ظهور دولة جديدة.
ونظرا لافتقار المغرب لرؤية قائمة على “التفكير الدبلوماسي الاستراتيجي” وخاصة ما يعرف بالدبلوماسية الاستباقية، فهذه التطورات تفاجئه وتتجاوزه أحيانا خاصة الموقف الأمريكي الأخير في الأمم المتحدة الذي كاد أن يفرض مبدأ تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء ومخيمات تندوف.
وبعيدا عن الخطاب الرسمي، يكشف الواقع السياسي أن ملف الصحراء بدأ يحاصر المغرب دبلوماسيا في المنتديات الدولية بشكل لم يسبق له مثيل. وأصبح هذا الملف يتحكم بطريقة أو أخرى في العلاقات المغربية-الأوروبية، وأصبح المتحكم في العلاقات المغربية-الأمريكية بعدما أصبحت واشنطن مصدر القلق الرئيسي للمغرب.
والخلل في تسيير ملف الصحراء يكمن في فشل المغرب في استيعاب التطورات الدولية واستمراره التفكير بمنطق الحرب الباردة والحرب على الإرهاب، وكذلك في فشل هيئات ومؤسسات الدولة المغربية وعلى رأسها المخابرات المغربية والدبلوماسية أكثر بكثير من البرلمان الذي يعاني من عدم حرية الحركة ويفتقد للموارد.
وعلاقة بالتطورات الدولية، لم يستوعب المغرب الأجندة الجديدة للولايات المتحدة ثم العودة القوية للدولة الاثنية بما في ذلك في أوروبا. عاش المغرب وحتى يومنا هذا على “فكرة” الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة المنخرط في الحرب الباردة ثم في الحرب ضد الإرهاب دون أن يدرك عمق الخطط الاستراتيجية الجديدة لواشنطن المتجلية فيما يسميه الباحثون في جيوبولتيك بانتقال ثقل العالم الى منطقة المحيط الهادي، حيث لا يمثل المغرب شيئا في هذا التطور ولا حاجة لواشنطن لها به.
وتزامن هذا المنعطف مع فقدان المغرب لناطق باسم مصالحه في الإدارة الأمريكية، بعد ذهاب هيلاري كلينتون ووصول مسؤولين مثل سوزان رايس مستشارة الأمن القومي وسامنثا بوير السفيرة لدى مجلس الأمن اللتان تتعاطفان مع جبهة البوليساريو ولا تتسامحان مع خروقات حقوق الإنسان.
ومن ضمن العناصر التي تشكل خطرا على المغرب هو عودة الدولة الاثنية من خلال بروز دول جديدة في تيمور الشرقية وجنوب السودان وتفتت يوغوسلافيا التي أسفرت عن كيانات جديدة وهي كوسوفو والبوسنة وصربيا والجبل الأسود ثم انتقال العدوى الى أوروبا الغربية. في هذا الصدد، ستشهد اسكوتلندا استفتاء تقرير المصير للانفصال عن بريطانيا خلال سبتمبر المقبل، وتقترب كتالونيا من هذا السيناريو للبقاء أو الانفصال عن اسبانيا، وتعيش بلجيكا وضعا مشابها.
وهنا نتساءل: هل سيتساهل المنتظم الدولي وخاصة الغرب مع المغرب في حالة تنظيم استفتاءات في دول غربية، الجواب هو لا. وهناك مؤشرات دالة في هذا الاتجاه منها تشدد بريطانيا مع المغرب في موقفها في الصحراء وكذلك دول شمال أوروبا التي تؤيد تقرير المصير.
وعلاقة بالنقطة الثانية وهي فشل مؤسسات الدولة في تحيين وتطوير عملها في الصحراء. فالمتعارف عليه هو عدم انتظار الكثير من برلمان مثل المغربي بسبب ضعف نوابه وعدم إلمام الأغلبية منهم بالتطورات الدولية واجترار الأحزاب للخطاب الرسمي، بينما الواقع المعقد للعلاقات الدولية يتطلب مشاركة مختلف الفاعلين السياسيين وبخطابات متعددة، فالخطاب الرسمي لا يلتقي بالضرورة مع الخطابات الأخرى للأحزاب والناشطين، ولكن الجوهر هو الدفاع الموقف الوطني.
وحول مؤسسات البلاد، فالصحراء هي عنوان الفشل الكبير للأجهزة الاستخباراتية المغربية بشقيها المدني DST وشقها العسكري DGED. والمتعارف عليه أن أجهزة الاستخبارات المتطورة والحديثة يتجلى عملها الحقيقي في وضع استراتيجيات لحماية البلاد من المخاطر وعلى رأسها الوحدة الوطنية. وعلى ضوء هذا: التساؤل الذي يجب أن يطرحه الجميع، لماذا فشلت المخابرات المدنية في احتواء خطر ارتفاع النزعة الانفصالية وأصحاب تقرير المصير في الصحراء المغربية؟ ويتكرر السؤال نفسه، لماذا فشلت المخابرات العسكرية المغربية في ربح تعاطف الغرب مع أطروحة المغرب؟ حيث نرى حدوث العكس من ارتفاع قوة البوليساريو بدعم من الجزائر ونجاحه في التغلغل في دول مثل بريطانيا والسويد والنروج والدنمرك والولايات المتحدة وفشل المغرب في خلق لوبيات تدافع عن مصالحه. اعتاد الصحفيون والسياسيون إخضاع الحكومة للنقد والحساب عن الفشل، ولماذا لا يتم إخضاع المخابرات التي يفترض أن لها دور استراتيجي في الدفاع عن الصحراء؟
وعلى منوال فشل المخابرات، فشلت الدبلوماسية المغربية في فهم آليات العمل الدبلوماسي الجديد، العمل القائم على الحوار مع المنظمات الحقوقية الكبرى مثل العفو الدولية، وفتح حوار مع مراكز الدراسات الاستراتيجية وتعزيز العلاقات مع القوى السياسية والإعلامية التي تشكل الرأي العام الدولي والتأقلم مع التطورات الكبرى. وهذا الفشل يبقى طبيعي بحكم افتقاد المغرب لمراكز دراسات استراتيجية وقصور البحث في العلاقات الدولية في الجامعات المغربية. ومن ضمن الأمثلة الإعلامية، خلال ديسمبر 2012، اعترف البرلمان السويدي بما يسمى الجمهورية الصحراوية، لقد فشلت دبلوماسية المغرب في نشر مقال واحد باللغة السويدية في إعلام هذا البلد يوضح مواقف المغرب.
ودائما في ارتباط بمؤسسات الدولة، تفتقد الدولة لمركز دراسات استراتيجي ينجز دراسات ترصد الواقع الحقيقي لتطور ملف الصحراء بعيدا عن ترديد أسطوانة الخطاب الرسمي. ولا توجد ولو دراسة واحدة صادرة عن مؤسسات الدولة تحذر من خطورة الوضع في الصحراء دوليا حتى جاء الخطاب الملكي. ويكفي الاطلاع على تصريحات بعض من يقدمون أنفسهم بخبراء في نزاع الصحراء ليتبين مدى بعدهم وجهلم بالواقع أو يحابون المسؤولين.
ويردد هؤلاء الخبراء كل مرة برفض المجتمع الدولي للبوليساريو، ولكنهم لا يشرحون كيف أن الاتحاد الأوروبي جمد اتفاقية الصيد البحري يوم 14 ديسمبر 2011 بسبب الصحراء وأرغم المغرب على تنازلات سيادية في الاتفاقية المقبلة التي لم يتم المصادقة عليها بعد، وكيف أن برلمان السويد اعترف بما يسمى جمهورية الصحراء العربية، وكيف أن الكونغرس الأمريكي شكل لجنة لدعم تقرير المصير ويربط كل المساعدات بمدى احترام المغرب لحقوق الإنسان في الصحراء، وكيف أن دولا لا تتعدى أصابع اليد الواحدة هي التي تؤيد مقترح الحكم الذاتي وبشكل محتشم في غالب الأحيان، بينما الغالبية العظمى مع استفتاء تقرير المصير، وكيف ابتلع المغرب الرسمي لسانه في ملف سبتة ومليلية للحصول على تعاطف اسبانيا في الصحراء تحت ذريعة الأولويات. ويمكن الاستشهاد بأمثلة أخرى تبرز هشاشة التفكير لدى هؤلاء الخبراء وقد تكون مستفزة لشعور الكثير من المغاربة الذين تلقوا خطابات غير واقعية حول ملف الصحراء دوليا.
الملك محمد السادس قال في خطابه بطريقة دبلوماسية “إن الوضع صعب، والأمور لم تحسم بعد، ومناورات خصوم وحدتنا الترابية لن تتوقف، مما قد يضع قضيتنا أمام تطورات حاسمة”، وإذا حذفنا الطابع الدبلوماسي اللين للتصريحات وأعدنا صياغتها تماشيا مع الوضع الحقيقي للملف دوليا والتطورات التي يشهدها قد تكون الصياغة على شكل تساؤل وهو كالتالي: “هل اقتربنا من فقدان الصحراء”.
المتتبع لدينامية التاريخ يدرك أن هذا التاريخ لا يرحم، ظهرت امبراطوريات وهوت، تشكلت دول كبرى وفقدت أجزاء من أراضيها، وأمثلة السودان بفقدان الجنوب سنة 2011 حية وقد تفقد حتى شرقها وربما اسبانيا في علاقتها بكتالونيا واسكوتلندا في علاقتها ببريطانيا بعد استفتاء سبتمبر 2014 دون الحديث عن الكيانات المترتبة عن فقدان يوغوسلافيا، ونشرت جريدة نيويورك تايمز في أواخر سبتمبر الماضي تقريرا حول الخريطة المستقبلية لتقسيم الدول العربية.
وقد تسعفنا الذاكرة التاريخية، فالمغرب اعتبر موريتانيا أراض مغربية ورفض الاعتراف بها حتى سنة 1969، وبالتالي من يضمن عدم تكرار سيناريو موريتانيا في الصحراء؟
الوطنية بدون تفكير وتخطيط استراتيجي، والولاءات للأشخاص قبل الوطن، والتركيز على التعبئة الداخلية بدل الخارجية، لن تحافظ على الصحراء ضمن المغرب الموحد بل ستساهم في ضياعها.
ونختم بما ورد في الخطاب الملكي “إن الوضع صعب، والأمور لم تحسم بعد، ومناورات خصوم وحدتنا الترابية لن تتوقف، مما قد يضع قضيتنا أمام تطورات حاسمة”.
ملاحظة: جزء من الأفكار الواردة في هذا المقال هي جزء من مقال مطول لصاحبه، سينشر في مجلة وجهة نظر التي ستنزل للأكشاك الأسبوع المقبل التي خصصت العدد كله لتطورات ملف الصحراء تحت عنوان “الصحراء: القنبلة الموقوثة، لمن ستدق الطبول”. ويحمل عنوان مقال حسين مجدوبي:
“ملف الصحراء: العوامل المتحكمة في مسار نزاع اقترب من نهايته: حقوق الإنسان، العلاقات مع واشنطن، انتعاش القوميات أوروبيا وتوظيف ملف الثروات الطبيعية”.