تبدأ رواية «حارة السفهاء» للتونسي علي مصباح بتقييد الجنود للرئيس العجوز وحمله على المحفّة بعيداً، بمقتضى المصلحة الوطنية العليا – وتلك كانت عبارته الفضلى -، وبذا يبدأ عهد «وزير شؤون الخدمات الحميمة» الذي سيصير صاحب الفخامة الرئيس الجديد.
على هذا النحو من السخرية تأتي الرواية في أبواب، ابتداءً بـ «باب العسل» الذي يتوزع على فقرات، شأن الأبواب الأخرى، وأولها «الفزاعة» التي ستتكرر في نهاية الرواية، ومثلها سيتكرر تكذيب الراوي الذي يدعي أن رأس الغول السابع قد قطع، فالتكذيب في البداية ينادي المخدوعين والمخدوعات بأن رأس الغول لم يمت، فهم الآن يغيرون ملابسه، ويعدون زينته الجديدة لافتتاح موسم جديد من الفجائع والأباطيل، ونقرأ: «يا شاطرين ويا شاطرات، اليوم تنحى عنكم من كان يتبول في سراويله وجاءكم من يجعلكم تتغوطون في سراويلكم».
ثم نقرأ في النهاية أن رأس الغول لم يمت، بل سلخوه وألبسوه جلد تمساح، وغداً سيسلخونه من جديد ليلبسوه جلد قرد، ثم جلد ثعلب…». وهو إذاً حفل هزلي لا مستقر له إلا في الدوران على نفسه إلى ما لا نهاية، في عودٍ على بدء، أو في اكتمال الدائرة الروائية، لأن الديكتاتورية مؤبدة، يستوي فيها الرئيس الخالع مع الرئيس المخلوع.
تتوالى فقرات أبواب الرواية، ومنها ما يقدم شخصية، ومنها ما يقدم حدثاً أو قصة فرعية، فيتكاثر الرواة كما يليق بالبناء السردي التراثي العربي: «قالوا، قال الحكواتي، قالت العامة، قال الراوي…»، وفي هذا الخضّم تحضر شهرزاد أيضاً، لكن الحضور الأكبر يظل للسارد. وبهذا التكاثر تتكثّر اللغة الروائية، وإن تكن جميعاً – ما عدا العامية – موسومة بلغة السرد التراثي، مما يذكر بالوسم التراثي في روايات إميل حبيبي وغازي القصبي وجمال الغيطاني… ومن تونس بخاصة، أذكر روايات فرج الحوار وأبو بكر العبادي وصلاح الدين بوجاه الذين تابعوا السنّة اللغوية لشيخهم محمود المسعدي. ولعل للمرء أن يرسم قوام رواية علي مصباح فيما ساق السارد إثر اختفاء الفرفوري المهرج، حيث تتشبك صلاحية رواية الغرائب والعجائب في الموازنات الممكنة بين المخزون الخيالي التراثي ومقتضيات التطور، وكذلك في علاقة الخرافة بالواقع، والخيال بالأيديولوجيا… ولكن مع التشديد على أن السخرية هي الإنجاز الروائي الأكبر لرواية «حارة السفهاء»، وهو ما يجمعها مع غرر الرواية العربية، الساخرة والنادرة، مما كتب إميل حبيبي أو غازي القصبي أو مؤنس الرزاز…
ومن بيان ذلك هذا الذي يقول به الرئيس الجديد: «عهد جديد وقبضة من حديد، فالزغاريد الزغاريد، والتصفيق يا أبناء الكلب التصفيق، وعين الحسود فيها عمود». ولا توفر السخرية الشعب الذي يقول قائله إننا كدنا نموت غبناً من دون زعيم قائد فذّ ذي كرامات وإنجازات شبيهة بالمعجزات. والآن صار لنا قائد مستنير منقذ مدبر مغيّر، وصاحب الفخامة الذي يشبه الإدمانَ ولعهُ بالإلكترونيك: هذه الآلة التقدمية العجيبة ذات الكرامات الاستعلامية المباركة. وإنه لموكب التقدم والتمدن، يدشّنه الرئيس الجديد بخطاب يودّع عهد البرودة والشرود والفوضى والتسيّب، ويعد الناس جميعاً بالجنة، حيث حقوق مدنية شتى وتراتيب عسكريّة جمّة، وحيث الحرية والكدّ والانضباط ومقاومة الفساد. وهكذا لاح للناس في الأفق ضرب كثير وكرب شديد وأيام مثل الليل. لكنهم استبشروا بالكدّ والجد، وأحنوا رقابهم فتقوست أكتافهم، وكانت احتفالات ودقّ أعناق ولكز وركل: سلام هي حتى مطلع الفجر.
للرئيس الجديد قرده الذي يجعله الامّساخ مستشاره (أبو قيس). وسيظل المستشار صانعاً للرئيس ولعهده حتى توشك الدائرة أن تدور، فينتهي أبو قيس ليلحق به الرئيس، ويتجدد رأس الغول، كما سبق القول كي تتأبد الديكتاتورية.
في مقدمة بشر الرواية تأتي أسرة الحاج مصطفى الذي يصف التظاهرات تأهباً للتغيير: «البلاد قايمة قاعدة، هايجة مايجة، والشوارع تموج، تطفطف، تترمرم…». وبذا يفتّق الحاج مصطفى العامية إلى عاميات تتلاطم باشتقاقاتها وقاموسها الشتائمي الفياض، (ص 303 حتى 305 مثلاً) سواء أتولى السارد الزمام أم تولّته أي شخصية روائية. أما أسرة الحاج مصطفى (الناصري) فتتوزع بين زوجته دوجه وأبنائه: فؤاد الذي ينخرط في جوقة السلطة، والمهدي ذو الميول الصوفية، والمعارض للعنف والتفكير، وسينتهي به الدرب إلى المعتقل، وثالث الإخوة هو صابر المثقف الذي يدمر روحه طوفان الديكتاتورية، وأخيراً هي ذي خولة التي يندغم صوتها بصوت الفتيات وهن يعدن بوطن آخر، ليس من فصيلة آكلات البشر كما هو وطن الديكتاتور. ووطن الفتيات مقدود من البشر الأحياء والمتعلقين بالحياة، وطن لا يريد تضحيات ولا ضرائب دماء ولا بطولات «كفانا أبطالاً وزعماء ملهمين وشخصيات خارقة للعادة، قادرة على إتيان المعجزات…». وفي هذه الأسرة هذا الصوت الذي يصوّر لإخوته أبدية الديكتاتور: فتحنا أعيننا على هذه الدنيا، فوجدناه هناك: في الراديو نسمع صوته، في التلفزيون هناك وجهه، وصورته في كل مكان. لقد كبر معنا، كبر فينا وظل معنا، تعلمنا منذ الطفولة أنه هو الذي حرر البلاد من فرنسا، وهو الذي خطب وهيّج وغيّر وبدل وقلب وأقصى وأبعد وزجر وهدد وتوعّد…».
تخصّ الرواية المثقفين بقسط كريم من سخريتها. ففي ربيع الشعر تشرع الرواية لهجاء شعراء الأنظمة، بينما تتوالى نصائح أبو قيس للرئيس بأن يغدق عليهم الذهب المزيف، وأن يكثر من التوسيم، وأن يستشيرهم ولا يؤمرهم، فالرئيس – يقرر مستشاره – هو قريحة الشعراء وشيطان شعرهم، وهو أرض زوابعهم وتوابعهم، ولكل رئيس – بمقتضى حِكَم أبو قيس – ما يستأهل من الشعراء، كما لكل شعراء ما يستأهلون من الرؤساء، وعلى قدر الرؤساء يكون الشعراء. ولجوقة المثقفين التي تطبّل لخطب الرئيس، هجاؤها، فأولاء سمّوا خطاباً لسيادته «الملفق» وسموه «المرقع»، ولكن الخلاف حول الخطاب بلغ حد الشتائم بنعوت الاغتراب والاستلاب والشكلانية والأصولية والاستوراب والانشقاقية والعرقلانية والغنائية…
وبعد الاحتفال بالطوفان الذي أغرق تونس، خطب مفتي الجمهورية مبايعاً الرئيس بيعةً منقادة منصاعة، ومنحه قلباً ذليلاً صاغراً، مبيناً أن معرفة القائد والإذعان له من باب معرفة الخالق وطاعته. ويختتم المفتي بالدعاء لسيادته بالنصر وبنجاح المسيرة على طريق التفتح والمجتمع المدني والتقدم والحداثة والديموقراطية والإعلامية المتطورة وقهر البدع والأمن المستتب وقطع دابر الانشقاق والفرقة والاختلاف: «وقل اعملوا فسيرى سيادته أعمالكم وأجهزته وأعوانه والمؤمنون، واعتصموا بحبل المجتمع المدني جميعاً، وبأطياف الديموقراطية وحقوق الإنسان».
إنه، بحق، شر البلية الذي يضحك، كما تصدعنا رواية «حارة السفهاء»، وهي تحلل الشخصيات بعمق، وتحقق الهجنة اللغوية بامتياز، وتجبل بلاغة العوام بالبلاغة التراثية، لتكون السخرية التي تستوي فيها دموع الضحك والبكاء.