رحلت زهور العلوي المدغري اليوم بعد أن وافتها المنية في أعقاب مرض عضال عانت منه لمدة عشر سنوات، وترحل بعدما ترك إرثا نضاليا يمتد من مقاومة الاستعمار الى الدفاع عن إرساء حقوق الإنسان والمشاركة في حركة 20 فبراير.
وتعتبر زهور العلوي من المناضلات البارزات في تاريخ المغرب، حيث عانت من الاعتقال إبان الاستعمار الفرنسي وتحملت العنف خلال سنوات الرصاص في المغرب. وتعتبر مؤسسة الاتحاد العمل النسائي وتبنت طيلة مسارها قضايا حقوق الإنسان وعلى رأسها قضية المرأة والاعتقال السياسي وحرية الرأي والتعبير.
وكتبت عنها الناشطة الحقوقية لطيفة البوحسيني الكلمات التالية:
زهور العلوي………..امرأة من طينة خاصة
الصديقة الصادقة الصدوقة
زهور العلوي المدغري اسم ستتذكره أجيال من النساء والرجال ممن عاشوا مراحل تاريخية امتدت لتغطي أزيد من سبعين سنة…
اسم عبر المحطات وسجل بمداد الفخر حضورا متميزا……..امرأة التقطت بحسها وبإيمانها الوطني الصادق اللحظات الحاسمة ولم تخلف الموعد أبدا…
من وسط فاسي، حيث الأم كانت حريصة على أن تتعلم البنت أصول وتفاصيل الحياة التي تنتظر المرأة المثالية بعد أن يتم تزويجها، ستحتفظ زهور بالمشرق في هذه التربية……..كل تلك الجوانب التي جعلتك تستوعبين معنى الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة في الحياة اليومية للفرد وللعلاقات بين الناس….
كان الأب شيخ طريقة صوفية، قادما إلى فاس من عمق المغرب…من تافيلالت، رغبة في تلقي العلم والنهل من ينابيعه التي كانت توفرها إحدى أقدم الجامعات الإسلامية، جامعة القرويين…
غير اتجاهه فيما بعد ليتخذ من الصوفية قبلته ومحرابه………رفض أن ينخرط في سلك يؤدي به إلى أن يصبح فقيه البلاط….أي بلغة اليوم موظفا، يحتفظ بالكاد بروحه بل يفقدها ليرضخ للتعليمات…هو جانبه المتمرد الذي لقحك إياه وبقيت محتفظة به ومخلصة له….
تعلمت منذ الصغر قواعد اللغة العربية…وأتقنتها بالشكل الذي جعلك تغرفين من منابع ثراتها…الشعري والنثري والديني… ألم يكن إتقانك لهذه اللغة، بالإضافة إلى صوتك الجهوري هما ما يفسران أنه كان يتم اختيارك لاعتلاء منصة الخطابة……..مجايلوك من النساء والرجال لازالوا يحتفظون بصوتك وهو يلعلع، مرة من أجل التحسيس وأخرى من أجل الإعلان عن موقف وتارة في التحليل والمحاججة والجدل….تتوقفين أحيانا للاستشهاد ببيت شعري أو لتلاوة آية قرآنية أو من أجل التذكير بقولة مأثورة لأحد الفلاسفة، لإسناد ما أنت بصدده قوله….وهو ما يبين شساعة معرفتك…
ظل سقراط على الخصوص، أحد فلاسفتك المفضلين وهو الذي قال قولته المأثورة التي تعشقينها : “إن منتهى علم سقراط أنه يعلم أنه لا يعلم شيئا”…. ليلتحق به فيما بعد هيجيل الذي أثر فيك بمنهجه الجدلي… وسيمون دي بوفوار بالتميز الذي طبع مسارها في الفكر النسائي الفلسفي والقطيعة التي كان لها الفضل في إحداثها وهي تقوم بتفكيك منظومة الهيمنة الذكورية والعودة بها إلى الثقافة بدل الطبيعة….وظل اسم “بلدي” موشوما في ذاكرتك كمعلم رسخ لديك الدرس والمنهج الفلسفي…
ستنهلين من طفولتك قيما ستظل موجهك في حياتك….
سواء تعلق الأمر بحياتك الخاصة، علاقاتك الإنسانية أو في التزامك النضالي، بقيت حريصة حرصا حادا على أن تظلين مخلصة لقيمك، حتى وإن كان الثمن غاليا….لطالما رددت على مسامع كل من رافقوك وعاشروك أنك لا تستسيغين التناقض بين القول والفعل….وكم كنت تذكرين بلكنتك الفاسية الخاصة عنوان أحد الكتب الذي أثر عليك في هذا الخصوص:
« Quand dire, c’est faire » ….
انخرطت في صفوف الحركة الوطنية وأنت يافعة، حيث كنت ترددين الشعارات وأنت محمولة على الأكتاف، بصوت جهوري وبفصاحة قل نظيرها كنت تلهبين من خلالها المشاعر في حمأة المواجهة مع المستعمر لما اشتد الصراع بعد نفي السلطان محمد الخامس. كم مرة صعدت إلى منبر المسجد لقراءة الآية القرآنية …»إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ “.
مهمة بحجم الوطن، بسعة الحلم الذي حملته أنت وأجيال ممن رفضوا الذل والخنوع…
ليس غريبا إذن أن تلتحقين وتنخرطين وتعلين من صوت الحق، الذي أدى إلى معانقتك للنضال من أجل حقوق الإنسان..فأنت من الحق أتيت وإليه تعودين…تقولينه ولا تخاف في الله لومة لائم…
انخرطت في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتحملت المسؤولية في مكتبه التنفيذي إلى جانب عدد من الرجال ممن أصبح لهم دور في الدولة…كان فتح الله ولعلو واحد ممن تذكرينه بإعجاب وتتذكرين رحلاتكم في اتجاه جامعة فاس حيث كانت تنتظركم مهام نضالية في زمن كان الرصاص يلعلع والتضييق على الحريات والاعتقالات تمس بالعشرات رفاق لك….والجدل حاد بين الاختيار الثوري أو الاختيار الديمقراطي….وأنت بين هذا وذاك تحرصين على البقاء وفية للوطن….
لطالما رددت حينها أن انخراطك في النضال هو بأحد المعاني تجسيد لنوع من الجذبة التي رافقتك طيلة حياتك….
التحقت بفرنسا لإنجاز أطروحة في الفلسفة…التي قبل François Chatelet الإشراف عليها دون تردد، وانخرطت بعدها في التحضير لعملك العلمي ولنضالك الذي اتسع هناك ليشمل القضايا القومية ومنها بالأساس القضية الفلسطينية…غنمت بالعديد من الصداقات هناك، ضمنها علاقتك مع هيثم مناع الذي لازال يسأل عنك كل مرة قدم فيها إلى المغرب…..وأنت تسألين عنه في ظل الويلات التي ترضخ لها سوريا الحبيبة اليوم…وتسألين عن ليلى شهيد التي ربطتك بها علاقة خاصة…
قررت الالتحاق بصفوف أولى مكونات الحركة النسائية وأصبحت عضوا بهيئة تحرير جريدة 8 مارس التي كنت تشعرين من خلالها بعودة الحياة في شرايينك بعد سنوات كنت خلالها منشغلة بالهموم العامة وبالشأن الخاص…
كنت ممن مستهن شظايا “التكفير” حين انطلاق حملة المليون توقيع من أجل إصلاح مدونة الأحوال الشخصية سنة 1992…لم ينفع مع المكفرين ايمانك البادي من تصرفاتك، ولا مرجعيتك الدينية الواضحة….التي كان ربما يشوش عليها، في أعينهم ايمانك الآخر بالمساواة وبالفكر النسائي الذي كنت ترددين دائما أنه لا يتعارض مع مقاصد الإسلام…
حاججت وقارعت ونطقت عن معرفة واسعة لتوضحين في عملية تفكيكية عميقة، أن الله لا يبغي لعباده الظلم….وكنت ترددين دائما أنه إذا كانت العقلية الذكورية ظالمة في حق المرأة فليس من المعقول أن يظلمها القانون….
شكلت بدون منازع أحد الوجوه النضالية النسائية الكبيرة خلال العشريتين الأخيرتين…انسحبت بعدها في هدوء…فدرجة الخلاف وصلت إلى حد لم تعودين تطيقين معه الاستمرار….ومع ذلك، وهذه إحدى شيمك الجميلة، احتفظت بالود..وكنت ترددين دائما أن الاختلاف لا يفسد للود قضية…..بل على العكس من ذلك هو رحمة لا يستوعبها إلا المؤمن الصادق…
ربطت دائما بين نضالك النسائي والديمقراطي…وهو الذي يفسر وجودك في الأجهزة القيادية للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، كما انخرطت في صفوف النضال النقابي…والقومي مع حرصك على أن يتم الأخذ بعين الاعتبار لكل مكونات المجتمع حتى لا تكون القومية إقصائية…هكذا كان على الأقل اختيارك أنت…
في كل هذه المنظمات والمنتديات، كان لك إسهام نوعي يعترف الجميع بفرادته….
دماثة أخلاقك وصدقك جعلا منك مناضلة يحترمها كل من رافقها على نفس الدرب وكذلك من اختلفت جذريا معهم….فبيتك أصبح فيما بعد قبلة لكل وطني غيور بغض النظر عن توجهه الفكري والسياسي والأيديولوجي…كلهم خبروا فيك العمق الإنساني النبيل وقدروا ما حملته ودافعت عنه وما حلمت به وبقيت مؤمنة به….
أنت اليوم تصارعين المرض، بقيت محتفظة على الابتسامة وعلى معنويات عالية وتحاولين جاهدة بفضل ايمانك الكبير أن تواجهي الألم…..
لم أرى دموعك إلا في لحظات نادرة، آخرها في جنازة الحبيبة آسية الوديع…..التي ودعتنا في وداع حارق لم نخرج بعد من لوعته….
كنت تلحين علي في أن أصمد وأن أكون قوية…بقدر ما كنت ترفعين عاليا من همتي…شكلت سندا لي في لحظات ألمي…هو ألم يشتد اليوم وأنا أحاصر من كل جهة بعجزي عن تحمل ما تشعرين به أيتها الغالية…
محاطة أنت اليوم ببهية وكنزة…..حمامتان هادئتان تسعيان إلى التخفيف عليك…وليلى الصغيرة تشرئب بعينيها إليك، متطلعة إلى هذه الجدة التي تحول المسافة الجغرافية والزمانية دون الاستمتاع بما تجسده من قيم وطيبوبة وكرم يفوق ما يمكن توقعه…أتألم شخصيا لكونها لا تنتفع منك وهي الأقرب إليك لأنها من سلالتك…وتحمل جيناتك….ولكن السلوى في أنك آمنت أن ليس هناك سلالة إلا تلك القائمة على قرابة القيم لا قرابة الدم…ستكون ليلى لا محالة خير خلف لأحسن سلف…
كنت كبيرة وستظلين كذلك…..
كنت شامخة وسيبقى شموخك في أوجه….لأنه جزء من كينونتك
كنت راقية، ومعك اتخذ الرقي معان أخلاقية سامية…
كنت من طينة مختلفة وهو ما يجعل محبيك كثر…ويجعل كل من تعرف عليك يحتفظ بذكراك ثاوية بين ثنايا ذاكرته…
أنت كبيرة بحجم الإنسان….ذاك الذي استطعت أن تعلي من كرامته خصوصا لدى الناس البسطاء الذين عاشروك وأحبوك….مليكة، رقية، فتيحة، السي علي وميلود…
أضع قبلة ودودة على خديك وأمسح دموعي عن خدي وفي أذني صوتك الذي يردد قول ابن عربي الذي عشقته:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
لقد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى لغزلان وديـر لرهبان
وبيت لأوثـان وكـعبة طائـف * وألواح تـوراة ومصحف قرآن
أدين بديـن الحب أنَّى توجَّهتْ * ركائبُه، فالحب ديـني وإيمـاني